الثورة التونسية لم تكن انفجارا عنيفا قابله عنف الدولة المضاد. و الملفت للنظر هو الصفة الانتفاضية (بالمفهوم الفلسطيني للكلمة) التي تمظهرت فيها ثورتنا حيث بدأ النظام الحاكم باستعمال العنف الشديد لقمع مظاهرات سلمية لم تتجاوز درجة العنف فيها مستوى رمي قوى الأمن بالحجارة. و ذلك دون اعتبار لما توصي به قاعدة التدرج الضروري في هذا الاستعمال. و هو ما لامته عليه الوزيرة الفرنسية ميشيل آليو ماري، عارضة مساعدتها التقنية في القمع المتدرج. فالشرطة استعملت الذخيرة الحية ضد متظاهرين عزل منذ الأيام الأولى » لأحداث الشغب » التي اندلعت بالمناطق الأكثر شعورا بالتهميش. و واقـــــع التهميــــــش يختلــــف عن الشعــــــــور به
. فخلافا للأفكار المسبقة، فإن ما كان يعبر عنه في الثمانينات بمناطق الظل ووضعت لها خرائط تضعها في المرتبة الرابعة من درجات التنمية اللامتوازنة بين مختلف جهات البلاد، كانت و ما زالت تضم مساحات كبيرة من الجهات الداخلية و من جهات الشريط الساحلي على حد السواء. فيكفي أن تبتعد بضعة عشرات من الكيلومترات عن مدينة بنزرت لتجد نفسك في تسكراية و سجنان و أن تتجاوز الشبكة العمرانية التي تكونها مدن جهة الساحل المتقاربة لتجد نفسك في الشراحيل و النعيجات أو منزل فارسي. وهي بلدات كلما مررت بها متعمدا أخذني الحنين لفضاء القرية المحاطة طرقها بالصبار و التي تواكب صورتها ذكرى طفولتي في أكودة في الخمسينات من القرن الماضي. و قد كتبت على واجهة حسابي على شبكة الفايسبوك أنني كلما اعترضني طفل حاملا محفظته على ظهره و أنا في طريقي إلى سيدي بوزيد لتأطير طلبة الماجستير بالمعهد العالي للفنون و الحرف أوقف سيارتي على حافة الطريق لأنظر إليْ و أنا « أشق طريقي ».
و إنطلاقا مما لاحظته من فارق بين التهميش و الشعور به أشير إلى ضرورة الأخذ في الاعتبار في قراءتنا للواقع الاجتماعي، إلى جانب المؤشرات الموضوعية التي تحيل عليها الأرقام، ما صرنا نسميه بعد الثورة بدرجة الاحتقان وهي كلمة نستعملها من خلال مدلول نفساني عام دون التفطن إلى أن هذا الشعور لا يكون نتيجة الظروف المادية الصعبة التي تعيشها شريحة اجتماعية ما او سكان جهات مهمشة اقتصاديا فقط. فالاحتقان يختلف باختلاف درجة شعور المهمشين بتهميشهم. لأن الشعور بالواقع ليس تسجيلا له على مستوى الوعي بل يتجاوز ذلك إلى مستوى ما يسمى بالتمثل الذهني للوجود و الذي يكون نتيجة ترسبات لا تدخل كلها في دائرة المرئي و الوعي الخارجي.
فالشعور بالتهميش بالنسبة للجهات الداخلية قد يحمل في طياته أبعادا تاريخية مترسبة في الوعي الداخلي الجماعي لسكان هذه الجهات. و هو أمر لا يخص فقط الجهات المحرومة بل يمكن اعتماده لتفسير ما يحيل عليه الشعور بالانتماءات الجهوية و التي لا تمثل كلها عودة العروشية القبلية. لأن الرجوع إلى الانتماء القبلي مرجعه سلوك أساسه رد فعل ظرفي ينتج عن حالة « طروما » أو صدمة نفسية جماعية. بينما الشعور بالتقوقع الجهوي ( و لا أقول الشعور بالإنتماء إلى الجهة الذي أعتبره ضروريا و قاعدة الإنتماء الفعلي للوطن) قد تكون له أسباب تاريخية دفينة يتجاوز مفعولها المصالح المادية المشتركة التي تربط بين أصيلي جهة ما. و أظن أن الذاكرة الجماعية للمجموعات البشرية التي تتكون منها الشعوب و الأمم تساهم بقسط ما في تفسير التصور الجماعي للوجود الذي يتأسس فيه سلوك الأفراد المنتمين لهاته المجموعات.
ومن هنا فأنا أقول و لست الوحيد في ذلك أن تأويل ثورتنا بالبحث عن مسبباتها الموضوعية ( البطالة و انسداد الآفاق و التوق إلى الحرية) لا يكفي لفهم ما يحدث اليوم بتونس. فهنالك مفهوم « الحڤرة » و هو شعور عبر عنه الشارع الجزائري قبل أن يسحبه، بعد اندلاع
الثورة، بعض الشباب المنتمين للجهات المهمشة على موقف النظام الحاكم منهم، يختلف عن الشعور بالظلم إذ يذكرنا معناه بأن المعنى العميق للظلم بعد أن يضاف له معنى الضيم ليس نقيض العدل فقط بل يضم في طياته احتقار القَوِي للضعيف و امتهانه لكرامته. و لهذا يكون » ظلم ذوي القربى أشد مضاضة« .
Répondre