علق احد « اصدقائي على الفايسبوك » على المقال الذي نشرته منذ يومين على « حائطي » وتطرقت فيه للبعد « الرمزي » للأذان بأنه تعجبه أعمالي الفنية كما يعجبه الاختلاف معي في الرأي ». و كنت ركزت مقالي على أن « النداء الإسلامي للصلاة » يختلف في جوهره عن ضرب النواقيس أو النفخ في الأبواق و ذلك بما يحيل عليه الأذان من أبعاد إنسانوية تجعل المؤذن في مقام الشاهد على وحدانية الله والمقر بنبوة محمد بن عبد الله رسوله للعالمين قبل أن يعلن عن حلول موعد الصلاة دون أن يدعو إليها صراحة في صيغة الأمر بالرغم من تذكيره في الفجر بان الصلاة خير من النوم وكذلك حسن العمل والفلاح
وقد أشرت إلى أن استعمال مضخمات الصوت في الأذان يحتوي على خطر انزلاق قيمي يؤدي إلى « تهويد النداء الإسلامي للصلاة و تمسحيه وهو ما من شانه أن يحرم المسلمين من إمكانية تجاوز الإيديولوجيات الدينية السابقة للإسلام والتي من المنظورالمحمدي كانت تمثل تحريفا لمعاني الكتب السماوية التي انزلها الله على موسى و عيسى وغيرهما من الأنبياء. ويمكننا القول بان هذا التحريف الجوهري الذي قام به « أهل الكتاب » لكتبهم والذي قام الإسلام بإصلاحه بالعود إلى فترته و حنفيته الأولى مرده أن رسالة موسى تحولت إلى « موسوية » خاصة باليهود و رسالة عيسى بن مريم إلى « مسيحية » تشرف على « مصارها » مؤسسات كنسية مختلفة. وجاءت الرسالة المحمدية في شكل قرآن يرجع المبادرة للإنسان و يؤهله على العمل باسم الله وهو سبحانه وتعالى رحمان رحيم يستجيب دعوة عبده إذا دعاه. فالوصايا العشر التي أنزلت على موسى تتخذ شكل أوامر تنهى الإنسان الفرد (في صيغة المخاطب) على أن لا يقتل وان لا يسرق إلى آخره . وهذه الوصايا تقول ضمنيا بان الإنسان مجبول على الشر وهو في حاجة إلى ردعه من طرف الرب. بينما يقول المسلمون بأن يعمل الإنسان لدنياه كأنه يعيش أبدا و لآخرته كأنه يموت غدا
وعن هذا الموقف المتميز لنظرة المسلم للوجود التي تحيل عليها الرسالة المحمدية يمكن القول بان هذه الرسالة إذا استحوذت على مصارها سلطة دينية تختص بالفتوى و التفسير وتمنع جمهرة المسلمين بما فيهم العلماء من التأويل والاجتهاد تتحول حتما إلى « إيديولوجية دينية لا تخدم إلا المؤسسات التي ترعاها وتقوم ب »التبشير » بها أو لها . وبعد أن كان القول بان « الدين عند الله الإسلام » يشرعه تجاوز آخر الأديان السماوية (والتجاوز ليس النفي) لما سبقه من الأديان السماوية الأخرى تصير هذه المقولة موقفا أساسه التعصب والتعالي الغير المبرر على الأديان الأخرى. ومن هنا نفهم موقف « المزاحمة » بين الأديان السماوية الذي نشهده اليوم والذي يصل إلى حد القبول بمقولة « حرب الأديان و الحضارات » التي ينادي بها الصليبيون الجدد والصهاينة من أتباع موسى.
و ما نلاحظه اليوم ومنذ أن أزيح العالم المجتهد عن مواقع الريادة الاجتماعية و الثقافية (و التي ليست بالضرورة ريادة سياسية) و عوض في سلم القيم السائدة اجتماعيا بالإمام الواعظ المرشد الناهي الذي لا يفقه من العلم إلا ما حفظه من « السلف الصالح » دخل المسلمون في مرحلة تاريخيه تتميز بتهويدهم و تمسيحهم لدينهم واضعينه في وضع مقابل لوضع الأديان الأخرى متناسين أن الإسلام هو الدين الجامع و رحمة للعلمين. والصلاة إذا ما وقح تحويل الأذان لها إلى نفخ في الأبواق كما كان يفعل اليهود أو ضرب للنواقيس كما يفعل المسيحيون (دون استعمال مضخمات الصوت) فسيؤكد هذا التخلي عن الصوت البشري المباشر التحول النوعي الذي يعرفه دين محمد على يد الجهلة ممن يحسبون عليه فيتكلمون باسمه. ولكل هذا عنونت مقالي السابق ب « وا اسلاماه » شفقة على امة الإسلام مما يوقعه بها وبقيم الدين الذي يؤسس رؤيتها للوجود مهرجي الأبواق والإذاعات والقنوات التلفزية الفضائية التي حولت الإسلام من آخر الأديان السماوية إلى دين فضائيات يسوق له كأي بضاعة إيديولوجية.
وبعد هذا عود على بدء. الصديق على الفايسبوك الذي صرح بان الاختلاف معي في الرأي يعجبه لم يناقشني في محتوى مقالي بل عارضني فيما لم أتعرض له البتة مطالبا بأن يسمح باستعمال الأبواق في الأذان كما يسمح للمسيحيين بضرب النواقيس و كأنني قلت بمنع الأذان ولم أدافع عن هويته الإسلامية الخصوصية. والذي دفعني إلى ذكر هذا التعليق هو ما وجدته فيه من اثر للتسطيح الفكري الذي يصاب به الشاب الذي يقع تحت طائلة الإيديولوجيات الدينية والغير الدينية التي تبثها الفضائيات العربية و غير العربية. و يكفي هنا ما يقوم به منشطو قناة إعلامية عربية عالمية الصيت من تحويل لمفهوم الحوار البناء المبني على تحكيم العقل والمذكي للنور إلى جدال عقيم بين « الرأي و الرأي الآخر » أو بإعطاء الفرصة للتعبير عن « الاتجاه المعاكس ». وهي كلها ممارسات فكرية لا تمت للتفكير بصلة و تتسبب في قولك لمحاورك « يعجبني الاختلاف معك في الرأي كما تعجبني لوحاتك الفنية « . فهل بقي مجال للحوار بعد هذا !! .
وإذا ما افترضنا او اعتبرنا أن هذا الصديق على الفايسبوك هو في الواقع طالب أو طالبة بالجامعة فما عسى كل منهما أن يتعلم إذا صار الاختلاف في الرأي من باب الهوى والميول التي تتجاوز سلطة العقل. فمتى سنفهم أن تحويل الإسلام إلى إيديولوجية دينية ليست قضية سياسية بقدر ما تمثل « اغتيالا للعقل » وجريمة في شانه تعيق إنتاجية تعليمنا الجامعي
نشر أول مرة فبل الثورة
Répondre