فليكن ما يكــــــــــــــون ! بقلم أحمد الحــــاذق العرف . جانفي 1978
هذا المقال يرجع تاريخه إلى 45 سنه و محتواه ينطبق على الوضع الحالي الذي يميز الممارسة التشكيلية السائده في بلادنا المتصفة بالإغتراب والتغريب والجهل بالغايات القصوى للنشاط الإبداعي التشكيلي الإنساني المؤنسن. وقد زاد هذا الوضع إستفحالا ما يبثه أساتذة جامعيون لا يرون وظيفتهم إلا كمواطن شغل من الدرجة الرفيعة ومواقع نفوذ وتسلط وإبتزاز وفساد موصوف
يمكن الإقرار بدون تردد بأن المعرض الذي يقيمه الآن الرسام الناصر بن الشيخ يعد ظاهرة هامة تستدعي الكثير من الوقوف والتأمل من طرف الزائر العادي للمعارض التي تقام هنا وهناك و تستوجب المساندة من طرف الذين يعملون من أجل ثقافة شعبية في توجهها وطنية في مضمونها وهو أمر غير ممكن إلا حين نربط هذا بواقع الفنون التشكيلية في بلادنا من جهة، والمهمة الملقاة على الرسامين الوطنيين – إن وجدوا- من أجل دفع عجلة الثقافة الوطنية من جهة أخرى.؟
أن يعرض رسام لوحاته ولكن بدون أن يبيع لأي كان فذلك يعني أن هذا الرسام لا يتعامل مع الفن على أساس « بضاعي » الشيء الذي يجعل اللوحة مجرد سلعة` لا يقتنيهاإلا من انتفخ « كيس نقوده » وانتفخ بطنه و دماغه… ويقتنيها بدافع الستوبيزم و من باب الترف . أما من كان بحالي وبحالك فليس لنا إلا جولة في القاعة نخرج أثرها فرحين مسرورين مرددين على مضض » القناعة كنز لا يفنى »
أن يصبح الأسلوب السلعي هو المحدد في العلاقة بين الرسام (كمنتج و خلاق) وبين المتلقي (المستهلك بالفعل أو بالقوة) يُدخل العمل الفني مرحلة التشيء ويدخل صاحبه منطقة الإغتراب حيث يصبح عمله مفروضا قسريا، جريا وراء الخبزة لا أكثر و لا أقل أي أنه يأتي ، لا كإشباع لحاجة ولكنه وسيلة لإشباع حاجات أخرى
من هنا تتحدد هوية الفنان التشكيلي كما يلي : هو « الفرد الذي ينفصل عن الجماعة و ينسحب إلى داخل نفسه منشغلا بمصالحه الخاصة ويعمل على أساس من نزواته الشخصية » الشيء الذي تنتج عنه كل الأمراض و الأوهام والخرافات و الأساطير التي يعج بها الوسط الفني والتي تتلاءم وكل أيديولوجبة سائدة لا تهدف إلا إلى تزويد الناس بتمثل زائف غامض مظلل لواقعهم الموضوعي من أجل استبقائهم في « وضعهم » داخل نظام من الإستغلال و الغربة.
من هنا أيضا نفهم لماذا يظل الفن التشكيلي أكثر أجزاء الحركة الثقافية تفسخا وانحلالا وتخلفا و هامشية… و نوما على قارعة الفكر والعصر والمجتمع، ولماذا يظل أوفى الأوفياء للإيديولوجية السائدة إن لم نقل إبنها المدلل
لنحاول الآن التوقف عند مقومات الوضع التشكيلي السائد
فنان – كما رأينا – مغترب ينتج عملا بضاعيا يقدمه لمُتَلَقٍ يشترط فيه هو أيضا أن يكون مغتربا .هذا الفنان كائن غريب يبث وهذا الزائر يتلقى، هذاالمتلقي يسأل وهذا الفنان قد يجيب وقد لا يجيب، هذا الفنان « كائن غريب » ذو فنون في الجنون وهذا المتلقي مجرد مواطن بسيط، عادي ( غض الطرف في بعض الأحيان عن صاحب كيس النقود ) فالعلاقة هنا تكاد تكون معدومة أو هي إن وجدت فهي علاقة تقابل ، ولكن الكل راض بهذه العلاقة، قانع بهذا الوضع والكل يرى أن المسألة على غاية من الطبيعية و جد عادية با أكيدة وضرورية.
إن وضعا كهذا لا يسمح بإبراز تناقض و لا يعترف به، بعد أن قضى على كل إمكانات النقاش والحوار والصراع … وذوبها داخل صمت القاعات الرهيب بل يحارب كل ما من شآنه أن يوفر مناخا يبرز هذا التناقض ( لا يمكن لك أن تسأل لماذا يباع سيدي بوسعيد مرتين مثلا الأولى من المستعمر للمستعمر والثانية من التونسي للتونسي ؟ لا يمكن أن نسأل لماذا تباع لوحات » الفقر » بأغلى الأثمان ؟ وهب أنك سألت وتساءلت وألححت في ذلك فهل ترى أن ذلك سيحل المشكلة ؟ طبعا لا ) لأن هذا التناقض يستدعي حلا و هذا الحل قد « يقلق » أصحاب الأرائك الوثيرة ويضطرهم إلى تعديل ساعاتهم. وللحفاظ على هذا الوضع » السهل « و « المريح » لا بد من الإعتماد على مجموعة من المطلقات الوهمية تكون أداة لمحاصرة الذين يرفضون هذا الوضع و » استقطاب » من هم على استعداد للدخول في هذا الوضع والإستجابة لما يمليه. وهكذا نجد قائمة طويلة وعريضة نجدها لدى كل هؤلاء الفنانين » الراسبين في الهامشية والمتعاطفين معهم ك ـ العبقرية ـالخلود ـ ـالذوق ـ الجمال ـ الموهبة ـ إلخ..
إن وظيفة هذه المطلقات تكمن في كونها تحول الصراع من صعيد حقيقي و محسوس إلى صعيد وهمي و أخلاقي حتى تتيح للفنان تلك « المنزلة الممتازة » التي لا يمكن أن يلتحق بها كل الناس ( فليس لأي كان – وخصوصا من الشعب الكريم – أن يصبح رساما،أن يصبح فنانا. فلذلك شروط وأي شروط ! اللهم أن يكون ساذجا حتى تستبعد كل إمكانية للتغيير تقلب هذه العلاقة.
كل ذالك يؤدي إلى فنان مغترب يجهل مصادر اغترابه و بالتلي يعجز على حل المعضلات التي تواجهه فيعلن هامشيته منتظرا مستقبلا يحمل له قارب النجاة من واقع طبقي أسقطه من حسابه.
كيف يمكن تغيير هذا الوضع ؟ إن ذلك لا يمكن أن يتم بعصا سحرية تقول للشيء كن فيكون وإنما عبر ممارسة طويلة وشاقة لا تخلو من الكر والفر والمراجعة والتصحيح حتى تصل القيم الجديدة درجة من الإقناع تسمح لها باكتساح مواقع القيم القديمة فتعود للفنان » إنسانيته » المفقوده و للفن فعاليته الإجتماعية التي طالما وقع تعقيمها.
في هذا الإطار يندرج معرض الناصر بن الشيخ الذي حاء دعوة حارة وملحة للتفكير في شؤون الرسم والفنون التشكيلية بصفة عامة والعمل على إنقاذها من الأزمة التي تردت فيها، والبحث عن سبل جديدة تؤدي إلى ذلك » العناق الخلاق » بين الفنان ( هذا المنتمي لنخبة توفرت لها فرص « التحفلط » و « التزفلط » والشعب ( الذي ظل يعبر عن جوارحه المجروحة رغم التجويع و التجهيل ) وهي مهمة ليست مطروحة على هذا الفنان فقط ،( إذ هو أبعد من أن يكون دنكشوطا يصارع طواحين الريح . لأن الدنكشوط الحقيقي هو الذي « يصنع » ـ أو هكذا يخيل إليه ـ الجديد في المقاهي و الحانات و يخشى ضراوة المواجهة
والمجابهة و يخاف مزالق الخروج عن السبيل المعبدة و متاعبها ومشاقها ) و إنما على كل الذين يؤمنون بثقافة معارضة لكل آشكال التبعية والإغتراب والمثقفاتية.
وهكذا حين يحجم هذا الفنان عن بيع لوحاته ، محولا قاعة العرض إلى متبر للحوار و النقاش فلأنه يعتقد بآنه لا يحمل مصباح الحقيقة النهائية الجاهزة بما إنه بعمله هذا إنما يقدم إقتراحات ـ مجرد إقتراحات ـ من جهة، ويطيح بالأسطورة التي ضربت حول الفنان الذي يفقد » منزلته » حينما يفشي سر خلقه و مكنونات إبداعه و بالتالي « ماعون عبقريته » من جهة آخرى.
من هنا يصبح ما قد يبدو تناقضا في الظاهر ( علاقة البيان الذي تقرؤه قبل أن تدخل قاعة العرض و مضمون اللوحات داخل القاعة ) أمرا طبيعيا أو على الأقل لا مفر من الوقوع فيه باعتباره يعبر عن « المشكلية » التي يطرحها هذا الفنان والتي تنسحب على وضع الفنون التشكيلية كلها . و باعتباره ـ كما قلنا ـ لا يحمل حلا جاهزا حتى تصبح هذه اللوحات إنما هي تطبيق لهذا البيان وعندئذ يفقد هذا العرض الغاية الأساسية التي من أجلها أقيم : تحريك السواكن و وضع كل شيء موضع تساؤل وبالتالي يصبح البيان هو النتيجة الحتمية لهذه الممارسة التي يقف صاحبها في نهايتها موقف من يقدم نقده الذاتي من جهة و يوفر أرضية يتحول فيها الصراع من صعيد وهمي و أخلاقي إلى صعيد حقيقي و ملموس من جهة أخرى.
و حين يضع هذا الفنان لوحاته جنبا إلى جنب مع إنتاج هذه الفلاحة التي لم تتخرج إلا من مدرسة الحياة فإنه يؤكد بذلك قدرة هذا الشعب على الخلق الفني و الإبداع و أن لا مناص للفنان الحقيقي من العودة إلى هذا النبع الذي لا ينضب و اكتشاف كنوز الجمال التي ينطوي عليها وتشربها حتى الإرتواء ثم ليأتي بعد ذلك الخلق.
ذلك هو الطريق إلى فن تشكيلي وطني يتعلم ويعلم يتأثر ويؤثر يقدم و يتقدم يغير ويتغير ، ينطلق من الشعب ليعود إليه ، يستفيد من خبرات التجارب الإنسانية و يضيف إليها.وعلى كل فالناصر بن الشيخ قد بدأ بكل جرأة وشجاعة. فليكـــــــن ما يكــــــــون…………أحمد الحـــاذق العرف
Répondre