تونس عاصمة الثقافة الاسلامية
كم أودّ لتونس أن تكون حقيقة عاصمة للثقافة الاسلامية، امتدادا واجتهادا للفكر التنويري. ولست أتمناه لهوسٍ بالرياديّة الفئوية للمسلمين وللإسلام، لأنني أعتبر أن الاسلام الخلاّق متحرر من فكرة آلْتِحَامِه بمسلمين بعينهم، ولأنني أيضا أعتبر أن حب الوطن لا يقترن بأمل في تحقيق صدارته أو هيمنته للتلاحق على ركبه أو للفوز بما يجعله في رتبة الفَوْق. هناك فارق جوهري بين ان يكون الوطن قبلة للأحرار والمبدعين أو المنتجين للقيمة وبين ان يكون استقطابا سلطويا قائما على تَحيُّز أو حَوْزٍ لنفوذ ما، لأن أي نوع من الهَوَس في الفَوقيّة والتفوّق على الآخر يقوم بالضرورة على النزوع إلى الطمس والتزييف والتزوير.
ما تحيلني إليه تسمية تونس عاصمة للثقافة الاسلامية التي يُلحّ في التنصيص عليها أستاذي الناصر بن الشيخ باتخاذها عنوانا محايثا لأعماله الرقمية والتي تبدو كسند فكري مبدئي وأساسي يقوم عليه نسقه الانتاجي الخصوصي، يجعلني أنتبه إلى ضرورة التدقيق فيما تنطوي عليه هذه التسمية باعتبارها محاولة حثيثة لاخصاب النشاط الروحاني الترميزي، بفتح أفق الثقافة الاسلامية من جديد على ماهو جوهري وليس على ماهو معطى، بحيث تتأسس الثقافة الاسلامية على التأويل المخصب وعلى القدرة على الترميز وهو ما يجعل من الانتاج الثقافي مسألة عصية على المحن ومتحررة من أشكال السبي والارتهان الايديولوجي الذي يفتح أبوابا على أشكال أخرى من الارتهان .
ولا أعتقد في هذا الصدد أنه بوسع الفكر أن يكون تنويريا ولا مستنيرا اذا اعتبرت الحضارة الاسلامية وقوفا عند تحصيل وحفظ ما هو معطى، بل على الفكر أن يكون منتجا للمعنى الذي يعكسه حقيقة، داخل ما يُراد له عنوة أن يبدو كمعطى اطلاقي. فالإسلام يتعالى عن أن يكون خِلعة جاهزة للارتداء، ويجدر بنا أن نهب للإسلام معناه من أنفسنا وفق شكل تصورنا لما يمكن أن يكون عليه كياننا ووفق ما يُلهمنا منه بالانعتاق، أي من الاسلام. ويتطلب هذا منا سعة تسمح بعكس سعته في احتوائنا لا بجعله وعاءً تطمس فيه انسانيتنا.
معنى ذلك أن كل تحيز للثقافة الاسلامية يجب أن يكون تحيزا للذات العميقة الخالصة التي تمثل المصدر المبدئي لأي توهج خلاق و تحيزا لمصدر الحنين الاولي والجوهري الذي بإمكانه أن يجعلنا مواكبين لأنفسنا أولا وقبل كل شيء، وقادرين على تفحص علل الحاضر الذي ننشئه وننشأ فيه، وهذا يعني أن نكون قادرين على التحيز للفكر الاسلامي كسؤال ماهوي متجدد وليس كمعطى هووي نهائي، لأن الثقافة التي ليس بوسعها أن تعكس قراءة خصوصية لتاريخها بتقليبِه، والثقافة التي لا تنبع من حاضر الانسان ولاتتصل بمهجته الحاضرة، لن يكون بوسعها أن تتأصل كجزء من الحضارة بل كعلامة قشرية على مرورها كالسراب في جو من التصحّر. وما يمكن أن نعتبره نكبة حضارية حقيقية، ليس تخلفنا عن صدارة العالم التي يتحسّر البعض لفقدانها بعد أن أمسك الاسلام السياسي بزمامها لحقبة من التاريخ، بل هي قبولنا اللاّواعي واللامسؤول ، بسحب أهليتنا في القراءة المتجددة لذاتنا العميقة التي لا صدارة فيها إلا للإنسان المجابه. وقبول سحب أهليتنا في القراءة تم ويتم إما بالتقديس لعلوية الاسلام الايديولوجي الذي اجتلبناه من خارجنا وحشوناه بفكرة الكونية والريادية التي تجحد الاخر وتجحد كل مراجعة في صلبه بجعل الاسلام ممنوعا على التأويل والتأمل، و بتحويل روحانيتنا الحية إلى قدسية نائية منزًّهة عن الحياة أو بلفظ هذه الروحانية باعتبارها وصمة عار على العقل الذي ينشأ في فكرة التقدمية النائية بدروها عن واقعها المباشر. هذا العقل المتبرم من واجبه في التحليل المجازي القائم على الاعتراف بالمبهم كجزء لا يجتزئ من مسألة الادراك، والذي يعتقد أن بمقدوره أن يحل بمفرده مسائل الوجود بحصره في دائرة من الاقصاء كل ما لا يطاله وما لا يدخل في حيز ادراكه.
سهير الأمين
29 /04 /2019
Répondre