قد يغفر للشيخ عبد العزيز بن باز السلفي الحنبلي مفتي الدولة السعودية و أستاذ بن لادن من الناحية القضائية الصرفة ارتكابه باسم الفتاوى عندما كان رئيسا للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عام 1974 التحريض على قتل و إهدار دم رئيس الجمهورية التونسية السابق الحبيب بورقيبة باسم التكفير و منع العقول من الاجتهاد في التأويل ردا على خطاب هذا الأخير المعروف تحت » الثقافة الذاتية و الوعي القومي » أو المعروف بعنوان » الإسلام دين عمل و اجتهاد » (18 مارس 1974) و الذي انتهج فيه بورقيبة تفكيرا عقلانيا يستند إلى فلسفة الأنوار و التفكير الوضعي الكونتي ( نسبة لأوغيست كونت ) في نظرته للمسألة الدينية . و هي نفس الفتوى التي حُـبّرت في 30 صفحة و التي تخرج رئيس دولة مستقلة لغتها العربية و دينها الإسلام من صفوف الأمة المسلمة و تضعه في دائرة الزندقة و الكفر , كما أنها نفس الفتوى التي ساندها في ذلك الوقت الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه » التطرف العلماني فيمواجهة الإسلام » و التي تضع بورقيبة في دائرة » الكفر البواح » و الخروج عن الأمة .
قلت قد يغفر لابن باز على تكفير بورقيبة , ولكن لا يغفر من الناحية الأخلاقية و الإيتيقية و التاريخية و حتى الديبلوماسية للدولة السعودية إيوائها للمجرمين و القتلة .
***
لعلها المرّة الأولى التي تشهد فيها السفارة السعودية في تونس حشدا جاء ليقف أمام أسوارها المحروسة , حشد لم يأت هذه المرّة للحصول على تأشيرات سفر للعربية السعودية قصد التمكن من أداء العمرة أو الحج لمن استطاع إليه سبيلا , بل جاء هذا الحشد متظاهرا أمام الدولة السعودية التي تمثلها في تونس السفارة المذكورة ليرسل الحشد – و هم من ممثلي الشعب التونسي الحر – رسالة صريحة للسلطات السعودية و تحديدا للعاهل السعودي – خادم الحرمين الشريفين – لتمكين التونسيين من خلال المؤسسة القضائية التونسية من جلب الرئيس المخلوع و الفار – حامي الفساد و الجرائم – لمحاكمته محاكمة عادلة , لا محاكمة سياسية هذه المرّة بل محاكمة جزائية بعد أن ثبت لدى القضاء التونسي تورّط المدعو زين العابدين بن علي عندما كان في سدة الحكم في جرائم قتل ضد الشعب التونسي و تبديد ثرواته خاصة بعد ثبوت التهمة ضده بالإمضاء على قرار قصف حيّ الزهور بمدينة القصرين بالقنابل عن طريق الطيران العسكري وفقا إلى تقاليد الإبادة الجماعية التي جربتها الأنظمة العربية الفاسدة ضد أهاليها و رعاياها مثلما حدث ذلك في ثمانينات القرن الماضي مع مدينة حماة في سورية حين سويت هذه الأخيرة بالأرض …
***
و في هذه الأثناء و تزامنا مع هذا المطلب الشّعبي أمام السفارة السعودية يدرج إسم زين العابدين بن علي في قائمة المطلوبين لمصالح الشرطة العالمية » الأنتاربول » بوصفه مجرما متهما بالقتل و الإبادة و التحريض عليهما , و هو ما يعني في الحالة تلك أن بن علي قد تحوّل – و هو اللاجئ للحياض السعودية هاربا و قاتلا و سارقا و خائنا للأمانة – من الناحية الديبلوماسية المحضة » إلى شخصية غير مرغوب فيها «
Persona non grata
و هو الأمر الذي سيشكل من وجود هذا الشخص المطلوب في ملجئه ذاك مزيدا من الإحراج الدبلوماسي و الأخلاقي للدولة السعودية تجاه الشعب التونسي أوّلا و تجاه الشّعوب العربية و الإسلامية ثانيا و تجاه الرأي العالمي العام ثالثا . و هو ما يعني صراحة أن الدولة السعودية التي تتمسك ظاهريا بمبدإ عدم تسليم الجنرال المخلوع للعدالة التونسية من منطلق أنها لم توقع اتفاقيات تعاون في مثل هذه القضايا بالذات ستوضع من هنا فصاعدا على مبدإ المحاسبة الأخلاقية و الإيتيقية بحمايتها لرهط من المجرمين و القتلة من أمثال الجنرال زين العابدين بن علي .
***
و لأن هنالك أطرافا رسمية في تونس قد تكون غير متحمسة فعلا لمطالبة السعودية على إحراج الدولة السعودية في مطلب تسليم المخلوع لعدة أسباب قد يكون من بين أهمها ذريعة عدم توفر مناخ لمحاكمة عادلة لبن علي , و أخرى تحرص على سلامة العلاقة الديبلوماسية بين تونس و الدولة السعودية نظرا للثقل الاقتصادي و السياسي الذي تمثله المملكة و الحاجة الوقائية إلى مساعدات المملكة لتونس على مستوى الاستثمار الاقتصادي مستقبلا , و أخرى ربما بسبب » الرّهاب السياسي » من محاكمة بن علي التي سوف تكون لها إن حدث إستتباعات في تورط العديد من الأسماء إذا أخضع الرئيس المخلوع إلى تحقيق دقيق يتم نشره علنا و بشفافية لدى الرأي العام التونسي , فإن هذا المطلب الشعبي و التاريخي على غاية كبيرة من الأهمية بوصفه يمثل القاعدة للدرجة الصفر للعدالة الإنتقالية التي سوف تكون المبدأ الأخلاقي و الفكري و السياسي الذي ستقام عله ملامح الدولة التونسية ما بعد الثورة . إن محاكمة بن علي تسبق من هذه الزاوية كل مطلب استحقاقي للتونسيين و هو من الناحية الرّمزية الديباجة الأليغورية التي تسبق ديباجة الدستور التونسي الجديد , فمحاكمة بن علي ضرورية حيوية لقطع دابر حضور و توالد » طبائع الإستبداد » لمن سيكون قيّما على التونسيين في سياستهم وحكمهم . و للدولة السعودية المسؤولية التاريخية في تعطيل تحقق هذا الاستحقاق أو الإعانة الأخلاقية و الرّمزية في وجوب حدوثه بوصفه درجة صفر لتوجّه البلاد التونسية للوفاق الوطني .
***
يعرف أهل الديار المقدسة في الجزيرة العربية حرص الدولة التونسية منذ العهد الحفصي أي منذ القرن الرابع عشر ميلادي مرورا بالعهد المُرادي وصولا للحسيني على الإيفاء بإيصال » الصُرّة التونسية » كما يصفها محمد بن الخوجة في كتابه » صفحات من تاريخ تونس » (منشورات درب الغرب الإسلامي – بيروت 1986 » إلى حماة الحرمين الشريفين . الصُرّة التونسية هي » تسمية المال الموجه من تونس للحجاز بمناسبة وقفة كل عام لأهالي الحرمين الشريفين » . و الصُرّة التونسية عهد رمزي للتونسيين المسلمين من باب الأمانات الواصلة لأهل مكة المشرفة و المدينة المنورة على وجه الصلة و المبرّة كما يذهب في توصيف ذلك بن الخوجة , كما أن ذكرها في هذا السياق ذكر للعلاقات الوطيدة بين التونسيين و حماة الحرمين الشريفين التي تحوّلت فيما بعد إلى العلاقات الديبلوماسية بين الدولة التونسية و الدولة السعودية و هي نفس العلاقات الرّمزية التي تؤكد وجوب النصرة المتبادلة بين أهل تونس و أهل الجزيرة … و نعتقد أنه باسم هذه « الصُرّة » العابقة الذكر و رمزيتها على الدولة السعودية أن تستجيب لنصرة الشعب التونسي في مطلبه التاريخي هذا و المتمثل في تسليم الجنرال للمحاكمة حتى لا يجلب الجنرال الهارب بعد استجابة الأنتربول في إدراج اسمه مقيدا في صُرّة آجلا أم عاجلا .
***
…يرحل الشيخ عبد العزيز بن باز قبل سنة من رحيل بورقيبة , الأوّل المحروم من نعمة البصر يرى النور بالعودة إلى السّلف و يرى الاجتهاد خروج على الأمة و الجماعة , و الثاني يرى النور في النظر لعقول رجال الأنوار , و يشير المفكر حمادي الرّديسي في هذا السياق في كتابه » ميثاق نجد «
Le pacte de Nadjd
: » زرقة عيون بورقيبة هي مكّة كل من نادى بأنوار العقل « … و نرى أن نفس هذه الزرقة تطالب الآن بالمحاكمة … المحاكمة العادلة لكي لا تسود الظلمة و لكي لا يزيغ البصر .
Répondre