لا مستقبل ل »حزب » النهضة إلا في التجاوز السياسي ل »تنظيم » الغنوشي
الوقاحة التي تعامل بها الضيف الثقيل الداعية المصري، الإختصاصي في المحاسبة و الحافظ لكتاب الله و المتبع لسنة رسوله، مع الشيخ مورو الذي جاءه ليهديه نسخة من نص للشيخ محمد الطاهر بن عاشور، توحي بالكثير عما يخترق الساحة الإسلاموية التونسية من إرتباك خطير يدل بوضوح على عدم تَمَكُن تنظيم النهضة من الإنخراط في الممارسة السياسية المسؤولة. فمُضَيفي غُنيم من السلفية التونسية لم يروا من واجبهم إعلام هذا الأخير بخصوصيات الظرف الذي تمر به تونس بعد أن صارت مقاليد حكمها بيد قادة تنظيم سري مكنتهم ثورة لم يقوموا بها، و بمساندة مفضوحة من قوى الاستكبار في العالم، من الصعود الى سدة الحكم ببلادهم
وأنا لست من مرجحي التأويل التآمري الذي يقول بتقاسم الأدوار بين « الشباب من السلفيين » كما يسميهم السيد علي العريض و « التنظيم السياسي » المؤشر له تحت تسمية « حزب النهضة » الحائز على الأغلبية النسبية بالمجلس التأسيسي المنتخب.
إن المشكل المطروح لا يتمثل في موقف السلفيين الذي يعترف أصحابه بأنهم خارجون عن القانون الوضعي الذي تستمد حكومة الترويكا، بقيادة « تنظيم النهضة« ، شرعيتها منه، بل في المساندة المعلنة التي يجدونها من طرف راشد الغنوشي، رئيس المنظمة الحاكمة، و صهره وزير الخارجية و الصادق شورو و الحبيب اللوز الذين يجمعون بين مواصلة الإنتماء الى منظمة سرية و الانتماء المعلن لحركة « سياسية ذات ايديولوجية دينية« ، تمكنت من مقاليد السلطة عن طريق إنتخابات ديمقراطية و شفافة، تحسب من نجاحات السيد الباجي قائد السبسي.
ذلك ان ما صرح به الداعية المصري بأنه من حقه أن « يُدْخِل الإسلام » إلى تونس موضحا أن ما يقوم به ليس بالعمل السياسي بل هو نشاط دعوي بالأساس، يؤشر على أن مشروع الجمعيات السلفية التي استضافته و حكومة النهضة التي تمتعهم بهامش « الحرية السياسية » التي لا تعترف بها هذه التنظيمات السرية نفسها، يتمثل في بناء دولة موازية للدولة التي يحكمون. و الحماية المفضوحة التي يتمتع بها السلفيون الذين يتصرفون تصرف الأحزاب الدكتاتورية الحاكمة تجعل الملاحظ يستخلص أنهم يمثلون اليوم مشروع دولة، مُبَطَنة داخل الدولة، غايتهم نسف مقومات الدولة المدنية الحالية، بالإعداد « العنيد و الغير المعلن » للإمارة الإسلامية التي انطلقت العمليات الإرهابية من أجل تأسيسها بتخوم سيدي علي بن خليفة. هذه العمليات التي يقدر وزير الداخلية علي العريض أننا لن ننتهي منها قبل أقل من خمس سنوات.
و أنا لا يهمني التساؤل الغير المجدي حول طبيعة العلاقة التي تربط الإسلامويين السياسيين « المدنيين » ب« الإسلامويين السلفيين الدعاة » و « السلفيين الجهاديين« ، المتوعدين لنا بحرب أهلية معلنة. بل الأهم في نظري هو الإشارة إلى ما تشهده الساحة الإسلاموية بتونس بشرائحها السياسية الحاكمة وسلفيتها الدعوية و الجهادية الغير المعلنة والتي يضفي عليها الغنوشي صفة « الثقافية« ، من « فوضى منظمة » أو مسكوت عنها تذكرنا بالفوضى الخلاقة التي نادت بها كاتبة الدولة للخارجية في حكومة بوش الإبن والتي تصدت لها، بكل اقتدار، المقاومة اللبنانية؛ بمساندة محسوبة من نظام البعث المتسلط بدمشق والنظام اللاهوتي بطهران.
و كما أوضحْتُ أعلاه فأنا لا أقول بأن ما تعرفه تونس اليوم من فوضى مُتعمَدٌ و مُخطَطٌ له في إطار مؤامرة ثورتنا جزء منها. بل إني أقتصر على اعتبار ما قامت به قطر بمساندتها « المشروطة » للثورة، خدمة لقوى الإستكبار في العالم، وأقلمة لمخطاط هذه القوى، المعدة منذ سنين، تتمثل في تحويل الثورة التونسية بخصوصياتها الحضارية إلى مطية إيديولوجية تسمح لقوى الاستكبار العالمية بضرب عصفورين بحجر.
الأول يتجسد في الواقع الجديد الذي أفرزته ثورة تونس على المستوى « النفسي الجماعي » و المتمثل في شعور أغلبية شعبنا ب« أن لا خوف بعد اليوم » و ما ترتب عن ذلك من تحرير للكلمة و للإعلام يصعب التراجع عنه و الثاني يتمثل في الأبعاد السياسية الواعدة بإمكانية تغيير موازين القوى في العالم اليوم، دون المرور بمتاهة الإيديولوجيات المعدة خصيصا لمنع مرور المبادرات المبدعة بحق و التي قد تؤدي إلى تغيير الواقع دون القفز عليه.
و عملية تحويل الثورة التونسية إلى بداية « ربيع عربي » ثم إلى نتيجة « فلسفة ثورة عربية« ، أعد لها راشد الغنوشي، أو إلى نتيجة « تراكمات معارضتية » عرفتها تونس منذ الأيام الأولى من استقلالها، يمكن إعتبارها تلاقيا موضوعيا بين مصالح قوى الاستكبار العالمية من جهة و من جهة أخرى ما تؤدي إليه الممارسات السياسية المراهقة التي ما زالت مُخترَقة بإيديولوجيات « الفشل المسبق« . وهي تصورات نظرية تمنع المسكونين بها من التجذر الوجودي في الواقع الخصوصي الذي يعيشون فيه.
و ما يمكن استقراؤه منهجيا من المستجدات التي تعرفها بلادنا اليوم هو أننا قد نكون نمر بمرحلة هامة من التطور الذاتي للوعي السياسي الجماعي الذي قد ينتج عن عدم تمكن الُمؤَدلَجين الماسكين بالحكم و الُمؤدلَجين المعارضين لهم من إفراز واقع جديد يتجاوز الاستقطاب الايديولوجي المتناقض بين الأحزاب الحاكمة و التنظيمات السياسية المعارضة
و ما يشهد على هذا المخاض الصعب لمرحلة النضج السياسي الجماعي الارتباك الداخلي الواضح الذي تعرفه الأحزاب التي تعاقدت فيما بينها على اقتسام السلطة بغض الطرف عن تناقضاتها الايديولوجية و هو ما لا يمكن تفعيله في شكل سلطة سياسية فاعلة و قادرة على الوفاء بوعودها الانتخابية المختلفة إلا بتمكن كل واحد من الأحزاب الثلاثة الحاكمة من تجاوز الايديولوجية التي ركبها لإقناع ناخبيه بتفويضه تولي سَوْسَِ شؤونهم بالنيابة عنهم. و صعوبة ترجمة الإتفاق المبدئي المؤسس للعقد الذي يربط الأحزاب الحاكمة الثلاث إلى علاقة وفاقية في خدمة الصالح العام قد يكون مَرَدُه النسبة المعكوسة من النضج السياسي التي يتصف بها كل واحد من هذه الأحزاب بالمقارنة بوزن كل واحد منها انتخابيا. و المفهوم الذي أعتمده هنا للنضج السياسي لا يعني البتة المقدرة على افتكاك الحكم أو المحافظة عليه بشتى أنواع الحيل السياسية (بمعنى ميكانيزمات كما يشير إلى ذلك « علم الحيل » في اللغة العربية). و إتقان ممارسة الحيل السياسية ليس بالضرورة « لا أخلاقيا » و لكن عدم تحصين هذه البراعة السياسية ذات الصبغة التقنية، بوضعها تحت طائلة الإطيقا لا يُمَكِنُ السياسي الذي يمارسها من بلوغ درجة « رجل دولة ». فممارسة السياسة بمعنى حذق تقنيات الصعود إلى الحكم أو الحفاظ عليه ليست علمَ و فن السياسة. والسياسة تفرض بكونها مهمةُ سَوْس المجتمعات بما فيه خيرُها، على الحاكم، أن يسمو بنفسه إلى مستوى ممارستها بعلم و فن و حكمة و اعمال بصيرة .ذلك انه في غياب الإتيقا تتحول السلطة التي يمارسها السياسي تفويضا، إلى تَسلُط على الرقاب؛ متخذة من مصلحة المتمكنين منها غايتها القصوى. و بما أن الإتيقا ليست الأخلاق فكثيرا مايكون« إحترام الأخلاق الحميدة » التعلة الأولى التي يرتكز عليها الحاكم المتسلط باسم الدين لتشريع عدم قبوله بتحويل سلطانه إلى سلطة مدنية تفويضية شعبية و مؤقتة. وهو ما تشهده الساحة اليوم من محاولة حمادي الجبالي ووزرائه قمع الحريات عن طريق الأخلاق الحميدة. ومن المعروف أن تحكيم الأخلاق، و لو وُصفت بالحميدة، لا يساعد على إيقاظ ضمائر الأفراد و لا يقيهم من غواية النفس الأمارة بالسوء و لا من غريزة التسلط.
و ما أعنيه بالنسبة المعكوسة بين الوزن الانتخابي لكل واحد من أحزاب السلطة و قدرة قياديه على السمو بنظرتهم إلى مستوى رجال الدولة ما يمكن ملاحظته من تلعثم و عَي، على مستوى الرؤيا السياسية، التي بدأ الرأي العام التونسي يشعر بهما لدى رئيس الوزراء ووزير الخارجية ووزير حقوق الإنسان ووزيرة شؤون المرأة و العائلة و وزير الثقافة و وزير العدل و وزير التعليم العالي
و من وجهة نظري فإن هذا المستوى الُمتَدَني من النضج السياسي الذي لايتصف به أغلب وزراء النهضة فقط، بل يتصف به أيضا الرئيس المعزول الذي يُجبرُه وضعُه ك« رئيس بدون سلطة » أن يلعب دور الضفدعة التي تحاكي الثور دون أن يقدر على السُمُو بمقامه إلى ما يفرضه عليه موقعه الرمزي من حذق ضروري للتمثيل السياسي، يتجاوز مدلوله التزاماته الشخصية النضالية السابقة. و كل الهفوات التي يرتكبها يوميا متأتية من عدم تمكنه وضع المنصف المرزوقي في خدمة رئاسة تونس مكتفيا بمحاولة استعمال رئاسة تونس الرمزية في خدمة خيارات المنصف المرزوقي الشخصية، مما يضفي على ممارسته اللارئاسية بعدا « دونكيشوطيا » مأساويا أكيد. أما الشريك الثالث فهو الوحيد الذي يبدو وأن له نية مسبقة في ممارسة الحكم بما يتطلب ذلك من تجاوز وفاقي للموقع الايديولوجي الذي أوصله الى تحمل جزء منها. غير أن الموقع الذي يبدو أن الدكتور بن جعفر تورط فيه لن يمكنه من ممارسة السياسة الراشدة التي لا تكون كذلك إلا بقبول الشركاء، بدورهم، بالتورط المقصود في نفس المنحى التجاوزي. و العلاقة المبنية على التفاوض و لو كانت بين خصمين لا يكتب لها النجاح إلا في حالة وجود شريكين يقبلان بالتجاوز. و هو ما لم يقدم عليه وزراء النهضة إلى حد الآن لعدم تمكنهم من تصعيد رؤيتهم الايديولوجية إلى رؤيا سياسية ناضجة. و هاته الرؤية الضيقة قد سمحت لهم سابقا بتجنيد العوام من المستضعفين و استعمالهم مطية إنتخابية؛ ولكنها لن تسمح لهم بالتحكم في الشرائح العريضة و المنتجة التي يرتكز عليها النشاط الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي. خاصة بعد أن تحول التونسيون إلى شعب حر لا يُتَحَكمُ فيه عن طريق ممارسة السلطان بل بالتفويض الُمتَجدَد و المراقَب لسلطته لمن يفوضه بصفة مؤقته وإن بلغ أمد التفويض عدة سنوات.
و قد يكون هذا التصور « البدائي » لممارسة السلطان مرتبطا بعدم إنخراط تنظيم النهضة، إلى حد الآن، في الممارسة السياسية المدنية الحزبية و التي تؤهل منخرطي أي حزب سياسي إلى تحمل ما تفرضه عملية التنافس الانتخابي و التناوب المنظم بالقانون على السلطة من حِكمة و فن و عِلم بسَوْس شؤون البشر و نكران للذات و للمصالح و التصورات الفئوية الضيقة.، بالتخلي عن سياسة التكتم و عن الخطاب التلفيقي المزدوج الذي ما زال رجال و نسوة تنظيم النهضة يمارسونه على أعلى مستويات المسؤوليات السياسية. وقد يكونوا قرروا مواصلةا خطابهم التضليلي الطوباوي حول بعث الخلافة الراشدة الذي لم يتجرأ لا الغنوشي و لا الجبالي العدول عن اعتبار تأسيسها من غايتهم السياسية على المدى البعيد و المتوسط وهم لا يخفون البتة أن انخراطهم في المسار الديمقراطي لا يمثل الا مرحلة تكتيكية لا يمكن أن ترتقي الى مستوى الغايات الستراتيجية.
و حتى الشيخ مورو الذي بدأ يحس بالخطر على تنظيم النهضة نفسه مما تلحقه به ممارسات وزارئه و غفلة قواعده من ضرر سياسي من خلال الممارسة السياسية المراهقة و اللاوطنية التي يتعاطاها قطب راشد الغنوشي لم يتجرأ وهو يحاور الشبان السلفيين النهضويين المنحازين للداعية المصري على معارضتهم في مبدإ تأسيس الدولة الاسلامية مكتفيا بالقول بأن ذلك مشروع طويل النفس، يتطلب إنجازه الإستحواذ على عقول أبناء الجيل الحالي من التونسيين و الذين يعتبرهم الشيخ مورو، ظلما و تزلفا لمحاوريه، من « العلمانيين« ، متنكرا في نفس الوقت لما يتميز به إسلام التحرير و التنوير للشيخ محمد الطاهر بن عاشور، وهو فحوى الهدية المفخخة التي سلمها لداعية جاهل لا يقابله علما و لا فصاحة.
و ظني أن مواصلة الشيخ مورو تشبثه بموقفه الزئبقي لن يساعد حركة النهضة من بلوغ سن الرشد بتخليها النهائي عن الطوباوية الحالمة بالخلافة الراشدة و هي حيلة لا يضمن مواصلة استعمالها نفس المردود السياسي الذي تحصلت عليه النهضة بجنيها جزءا هاما من أصوات المغفلين من مستضعفي شعبنا.
مع العلم أن التطور الإيجابي لحزب النهضة ليس مرتبطا بما قد يقوم به قادته الأكثر نضجا سياسيا من تطوير موضوعي لممارسات قواعدهم التي هي جزء لا يتجزأ من شباب شعبنا بل إن هذا التطور رهين بالتطورات التجاوزية التي يمكن و يجب أن تفرزها التحركات التي تعرفها بقية التيارات السياسية الغير المشاركة في الحكم.
و هذا شأن آخر.
Une réponse
مستقبل حزب النهضة في التجاوز السياسي لتنظيم الغنوشي | Naceur Ben Cheikh
[…] le 23 février 2012 par Naceur Ben […]