منذ اليوم الأول من ثورة 14 جانفي 2011 كتبت نصا مقتضبا في شكل افتتاحية نشرته على واجهة حسابي على الفايسبوك و على موقعي على الواب أوضحت فيه بأن ثورة تونس فريدة من نوعها ولا يمكن لا تصديرها من طرفنا نحن و لا توريدها من طرف الشعوب العربية الشقيقة. لأني كنت و ما زلت أعتقد أن من الخطأ اعتبار الشعوب العربية شعبا واحدا وان الطريقة التي أنجزت من خلالها الثورة التونسية لها من مواصفات الإبداع الخصوصية ما يجعل من الصعب إعادة إنتاجها من طرف شعب آخر بالرغم مما يمكن أن نعدده من مظاهر التشابه بين مختلف الشعوب الشقيقة التي يربطنا بها العرق الواحد المفترض و اللغة الأم المشتركة و دين القران الذي تؤمن به أغلبياتنا المختلفة.
و لاحظت بعد ذلك كيف أن ما أقدم عليه العديد من الشبان بالجزائر ومصر و اليمن من إعادة لما قام به محمد البوعزيزي من التضحية بنفسه على معبد الكرامة لم يتسبب في إذكاء نفس الشرارة المقدسة التي حملت ثورتنا من العمق. فما وقع في مصر و ما هو بصدد الوقوع في ليبيا ليس شبيها بما وقع بتونس على أساس انتشاره عن طريق العدوى. و من الضروري أن نحذر من تقليد ثوراتنا المختلفة بعضها البعض. لأن التقليد نقيض الإبداع و لا يسمح بالإنتاج الفعلي للتاريخ من طرف الشعوب.
و ما تشير إليه مواقف بعض شرائح المتعلمين من المجتمع التونسي يدل على أن التقليد لا يتمثل فقط في إعادة التالي لما قام به الأول بل كذلك في تقليد الأول للثاني بعد أن يترك نفسه يتحول إلى صدى لأحداث لاحقة أبهرته مظاهر مظاهراتها الاحتجاجية المليونية. و عندها يفرط في زمام المبادرة الذاتية و يستكين لفعل الإيديولوجية فيه متخليا عن ثورته التي لم تكن إنتاجا لأي إيديولوجية من التي كانت و ما زالت تباع على الساحة السياسية. فبعد أن « ألهمت » ثورة التونسيين إخواننا المصريين فأنتجوا بدورهم ثورتهم الخصوصية لاحظنا كيف « تلقف » المعتصمون بالقصبة ما وقع بساحة التحرير بالقاهرة أسبوعا بعد تولي المجلس العسكري زمام السلطة بمصر محتفلين « هم أيضا » بمرور شهر على إزاحة بن علي عن السلطة.
والاعتصام المليوني بساحة التحرير بالقاهرة يمثل حدثا مختلفا في دلالته يصعب توريده دون المس من الخصوصيات التي سمحت لثورتنا أن تستمد فاعليتها منها.
فالمصريون بعثوا برسالة للمجلس العسكري فحواها انه بمقدورهم أن يعيدوا الكرة و أنهم يبتغون تأسيس نظام جمهوري مدني في بلاد مرت من النظام الملكي إلى نظام عسكري بدأ « ثوريا » مع عبد الناصر و تحول إلى دكتاتورية حسني مبارك. و خوف الجماهير المصرية من أن يقع الالتفاف على ثورتهم شرعه قرار المجلس العسكري بأن تقوم الحكومة المعينة في عهد مبارك بالاستجابة لمطالب الثورة التي نادت بإسقاط النظام العسكري و ليس بأحد رموزه المتمثل في حسني مبارك. أما بالنسبة لتونس فإن الجمهورية المدنية التي تأسست إثر إطاحة المجلس التأسيسي بالنظام الملكي الحسيني بتونس كانت « متقدمة » بحقبة عن كل الأنظمة « الثورية » العسكرية الانقلابية المنبع المتمكنة من مصر منذ انقلاب الضباط الأحرار تحت واجهة الجنرال محمد نجيب و التي تلاها انقلاب عبد الكريم قاسم بالعراق و الجزائر منذ أن أطاح جيش التحرير بحكومة بن خدة يوم عودتها من تونس إلى عاصمة الجزائر و اليمن و ليبيا و موريطانيا.
ومن الضروري أن نفهم في العمق طبيعة كل هذه الأنظمة التي يقال إنها مرشحة لان يمسها المد الثوري الذي انطلق من تونس. وذلك -حسب رأيي- ليس من باب التكهن بما يمكن أن تؤول إليه « ثورة الشعوب العربية على أنظمتها » بل لنعي ابخصوصية ثورتنا و نتمكن من حمايتها من فعل المؤدلجين الذين يبتغون الالتفاف عليها بدعوى الدفاع عنها.
وهو ما معناه انه من واجب الشباب التونسي أن يكون يقضا و متسلحا بما فيه الكفاية من الحس النقدي حتى ينأى بثورتنا عن العدوى الثورية المضادة والتي تتسبب في توريد الثورة المصرية إلى تونس.
و لا اعني بذلك أني بصدد المقارنة بين الثورتين الشقيقتين واعتبار إن إحداها أكثر تحضرا من الأخرى كما تجرا على قوله العسكري عمر سليمان لما ادعى أن المصريين ليسوا مثل التونسيين الذين لم يحترموا رئيسهم و اجبروه على مغادرة البلاد. بل القصد مما أقوله هو التعرف الموضوعي على خصوصية كل من الثورتين حتى لا نوقع بمسارهما الضرر بإسقاط واقع الأولى على الثانية أو واقع الثانية على الأولى.
والمتأمل في تسلسل الأحداث التي مرت بها الثورة المصرية يمكنه أن يلاحظ كيف وقع تجاوز المثال التونسي بعد أيام قليلة من بدء الثورة بالعود إلى مرجعياتها الوطنية والتي يرمز إليها نشيد الثورة المصري « بلادي بلادي…. »([1]). و سرعان ما تحول التركيز على عدد المتظاهرين متجاوزا الانطلاقة الشبابية للثورة واضعة في الميزان البعد الديمغرافي لمصر بتفعيل « صورة حقيقية » للشعب المصري الذي « جاء بالملايين » يعلن أمام العالم عن سحبه ثقته من النظام. مما أعطى لهذا المطلب صبغة ثورية مدنية و قلب مفهوم الثورة الذي احتفظ به من الفترة الناصرية رغم تحول النظام العسكري إلى نظام وطني انعزالي مع السادات و ليبرالي دكتاتوري مع حسني مبارك. وفهم ضباط الجيش أن لا خيار لهم إلا مساندة ثورة الشعب بعد الاعتراف بأن ثورة الجيش وقع القضاء عليها نهائيا اثر تفريغها من محتواها و تحويلها إلى نظام حسني مبارك.
وكل ما وقع بعد ذلك مثل مراحل الاعتراف المتدرج من طرف « الجيش-الدولة » بالثورة الشعبية المدنية. و اتخذت الأحداث منحى « تفاهميا » مبنيا على ضغوطات متبادلة بين الضباط و »الشارع المليوني » مما ضمن للضابط حسني مبارك البقاء الرمزي بمصر والاستجابة إلى مطلب الشعب في تأسيس جمهورية مصر المدنية الديمقراطية.
و خلافا للنظرة الميتافزيقية التي تقول بأن التاريخ طريق سيارة تتسابق فيها الشعوب و الحضارات يقع فيها تقليد السابقين من « الأمم المتقدمة » من طرف « المتخلفين » (في السباق) ليتمكنوا من « اللحاق بركب الحضارة »([2]) يمكن القول بأن لكل شعب تاريخه لا يمكنه المساهمة في إنتاج التاريخ الإنساني المشترك إلا بالتجذر في نسقه الخصوصي. لان انتاج التاريخ ابداع . و الثورة المنتجة للتاريخ ابداع او لا تكون.
و الخطر على الثورات الاصيلة يكمن في ما يفعله بها المؤدلجون من ابناء شعوبها و الذين يدعون بانهم « حماة الثورة ». فليبداوا بحماية الثورة من انفسهم.
فالثورة التونسية مثل البيت الذي بمكة لها رب يحميها. و حماة الثورة بلجانهم يذكروني بجمعيات المحافظة على القران الكريم و التي تدعي تعويض الله في الحفاظ على كتابه. فاقينا يا رب من الشرك و من الشك في قدرتك على حفظ كتابك و على حماية بيتك. و احمي ثورة شعبنا من كيد المدعين غير المبدعين
هذا ما كنت نشرته على مدونتي بتاريخ ١٦ فيفري ٢٠١١ و اليو م وبعد ما يقرب السنة وما عرفته الساحة السياسية العربية من تطورات ذات بعد مأساوي واضح حولت الربيع العربي إلى خريف بعد تلقف الثورتين التونسية و المصرية من طرف المتآمرين عليهما بتحويل الوجهة الثورية الخصوصية لكل منهما و إدراجهما في أجندة خارجية تقوم بتغطيتها السياسية و الإعلامية إمارة قطر. وتمثل تحويل وجهتي كل من الثورة التونسية والمصرية في نزع الصفة الخصوصية ( القطرية، بلغة الوحدوويين) وإدراجهما في خانة « الربيع العربي » الذي يدخلهما في مسار موحد يجعل منهما مطية أيديولوجية يقع التعتيم من خلالها عما يحمل اندلاعهما الغير المنتظر من تمكين الشعوب العربية من المشاركة الفعلية في انتاج التاريخ و يسمح باستعمالهما تعلة ايديولوجية وأخلاقية للقيام بافتعال ثورات استباقية غايتها تحويل « الربيع العربي » من تسلسل ثورات تستمد فاعليتها من تجاوز الشعوب العربية حاجز الخوف و مطالبتها بحقوقها المقدسة في الحرية و الكرامة إلى « انقلابات شعبية » تبرمج و تنفذ بمساعدة القوى العظمى المهيمنة غايتها تعويض الأنظمة العربية الحليفة بأنظمة أخرى تحل محلها في المحافظة على السلم الأميركية الضامنة للإستقرار السياسي الذي يحتاجه تواصل تعميم اقتصاد السوق الذي يخدم مصالح القوى العالمية المهيمنة .
ومن هنا نفهم المسار المأساوي الذي اتخذته ثورات ليبيا و اليمن و سوريا التي تحولت بالضرورة إلى حروب أهلية ذات دلالات مزدوجة بين شرعية ثورة الكرامة والحرية و استعمال هذه الأخيرة كحصان طروادة لتدخل عسكري و سياسي إعلامي سافر يحرم الشعوب من الإبداع الثوري الخلاق و يعوضه بالفوضى المعمَمَة المحبطة للعزائم
و يمْكننا اليوم إضافة مفهوم جديد يمَكننا من اثراء فهمنا لآليات تدخل القوى الاستعمارية الجديدة لمواصلة هيمنتها على الشعوب العربية ألا وهو مفهوم الثورة الاستباقية التي يبدو و أنها عوضت مفهوم الحرب الاستباقية التي اعتمدها جورج بوش الإبن وأدت إلى النتائج الكارثية المعروفة
و الثورة الاستباقية يمكن أن تتخذ أشكالا مختلفة من التدخل في ثورات الشعوب و تختلف فاعليتها في إجهاض الثورات الأصيلة بمدى سيطرة الايديولوجيات الطوباوية المهزومة العروبية و الاسلاموية و شتى أنواع التقدمية الثورجية على عقول النخبة المشتغلة بالسياسة والتي عن طريقها تُحَوَل ثوراتُ الحرية و الكرامة إلى مشاريع وهمية ذات صبغة ايديولوجية تلهي الشعوب و تجعلها في غفلة عما يفعله بها المغامرون السياسيون الذين يضعون أنفسهم في خدمة القوى الاستعمارية الجديدة٫ و الثورة الاستباقية يمكن أن تتحول إلى ثورة مضادة يختزل أثناءها التغيير في التفعيل الاوتوماتيكي لما يفضي إليه الاحتكام « الكلبي » لصناديق الاقتراع ولو أدى ذلك إلى إبدال دكتاتورية مستبد غير عادل باستبداد أشد وقعا وهو استبداد الجماعة المنتخبة باعتبارها منتصرة في حرب الانتخابات مهما كانت نسبة و نوعية شرعيتها الغير المعلنة والتي تعتم عن ذكرها الفاعلية المنتظرة للعملية الانتخابية و ضرورة افصاحها عن نتائج عملية في تعيين الأغلبية الحاكمة . ويمكن القول بأن الوضع الذي سبق ذكره ينطبق جزئيا على الثورتين التونسية و المصرية مع الفارق الذي أشرت إليه في الجزء الأول من هذا التحليل و الذي نشرته منذ ما يقرب السنة والذي أوضحت فيه أن الثورة التونسية متقدمة بحقبة عن شقيقتها المصرية التي عليها أن تقوم بعدإسقاط دكتاتورية مبارك بتجاوز ثورة عبد الناصر العسكرية التي مايزال المشير الطنطاوي يتمسك بشرعيتها الى حد اليوم. و هو ما يجعلني ألاحظ أن الثورة المصرية تعاني اليوم من تحالف نوعين من الثورة المضادة يتمثل الأول منها في عدم القبول بانتهاء حقبة الثورة الانقلابية العسكرية و الثاني في الانتصار الانتخابي لدكتاتورية الاجماع الديني. وهو ما قد يبرر تشاؤم بعض الملاحظين الذين يقولون إن الثورة المصرية تبحث اليوم عن الخروج من عنق الزجاجة.
و اعتبارا لكل هذا فان الثورة التونسية ونظرا لتقدم تونس البورقيبية بحقبة تاريخية عن كل الدول العربية و أكاد لا أستثني منها حتى لبنان فإن إمكانية الثورة المضادة كانت أقل فاعلية بالرغم مما تتبجح به الأغلبية النسبية الاسلاموية التي » تحالفت » مع ثورجي مراهق سياسي حيدت عن طريقه سلطة رئيس الجمهورية و سياسوي ينوي بلوغ مرتبة رجل دولة بمعارضة داخلية تؤهله أن يقوم بدو المدافع عن الدستور المقبل من خطر التخونيج و التتريك و التقطير. و ما تؤشر عليه ردود الفعل و المبادرات الحيوية التي تقوم بها مختلف مكونات المجتمع المدني باستثناء جمهرة المنحازين تعصبا لحكومة الإسلامويين الإنتقالية تدل على أن الثورة التونسية ما زالت في بداياتها و أنها بخير
و لا أظن أنه ما زال يوجد في العالم بما فيه أمير قطر و أوباما و إسرائيل من سيثق مستقبلا في قدرة الغنوشي و الجبالي و بوشلاكه و الديلو و أمراء السلفية بالبرلمان و الحكومة على الالتفاف المبرمج على ثورة شعب أنتج بورقيبه و فرحات حشاد و الثعالبي و محمد الطاهر بن عاشور و غيرهم من الزعماء الذين أنتجوا فكر التحرير و التنوير و جعلوا منه مضادا حيويا يضمن لتونس مناعتها الذاتية ضد كل أنواع الفيروسات الاسلاموية المفبركة بلندن مع استثمار أميركي و توزيع سعودي قطري٫
تونس في الخامس من فبراير٢٠١٢
الناصر بن الشيخ
[1] و الذي يختلف عن النشيد الرسمي لجمهورية عبد الناصر العربية المتحددة. و لنشيد الثورة المصري دلالة خاصة بالنسبة لعامة الشعب المصري لان إذاعته اثر حرب 67 كان بمثابة إعداد الرأي العام لتقبل خبر الهزيمة و دعوة المصريين إلى اعتماد القيم الوطنية المصرية و التخلي عن الايديولوجية « العروبية » التي انهزمت ضمنيا بهزيمة مصر عبد الناصر
Répondre