1. إنّ الإطلاع، الغير الَمشُوب بالرُؤى « التَحَزُبّية » الضيقة، على تاريخ الحركة الوطنية و على َالفكر الذي أفرزها و أفرزته، يُُمَكِنُ الباحث من الوقوف على أنّ الحزب الدستوري (والتي ضَمَنَتْ تسميتُه منذ تأسيسه سنة 1920 صفةَ « الحرّ »: الحزب الحرّ الدستوري) كان وليدَ فكرٍ مُبدِعٍ أسّس له روّادٌ مثقفون منهم الجنرال خير الدين باشا، المصلح و خير الله بن مصطفى أوّل رئيس لجمعيّة قدماء الصادقيّة، وعلي باش حامبه مدير جريدة « التونسي » و حسن القلاتي المحامي و الصحفي بنفس الجريدة و البشير صفر، ومحمّد الأصرم رئيس جمعية الخلدونية و غيرهم كثيرون. و قد مكّن تواجدُ هذا التراث الفكري الثري و المتنوّع الحزبَ الدستوري من استقطاب جلّ مفكري و مثقفي جيل الثلاثينات و سمح تواجدُ هؤلاء داخل تنظيم موحد مع اختلاف تكوينهم و مراجعهم الفكريّة من استنباط الوسائل النضاليّة الناجعة التي ضمنت للحزب النجاح في تحرير البلاد من الاستعمار الأجنبي والتفوق الموضوعي على كلّ التيارات و الأحزاب التي واكبت نموّه و تطوّره منذ بداية القرن إلى الاستقلال.
2. و مما قد يفسّر قدرةَ استقطاب الحزب الدستوري للنخبة المثقفة، (وتختلف على النخبة المتعلّمة)، قبل الاستقلال و بُعَيْدَهُ، عدم اقتصار العمل الحزبي الأصيل على النشاط السياسي البسيط في تصوّره للقضيّة الوطنيّة. و لقد اعتبر جلُّ مثقفي الحزب آنذاك الكفاحَ من أجل استقلال البلاد قضيّةً ثقافيّةً بالأساس، تشمل الحفاظ على هوية الشعب التونسي العربي المسلم لتمكينه من تحرير نفسه بنفسه و من وسائل المساهمة الحرة في الإبداع الحضاري الإنساني في تحاور ثري بين خصوصيته الثقافية و ما استوعبه باقْتِدَارٍ و تملك من الثقافة الغربية. و لنا في كتابات عبد العزيز الثعالبي و الطاهر الحدّاد و الحبيب بورقيبة و محمود الماطري و سليمان بن سليمان و علي بالهوان و الفاضل بن عاشور و محمود المسعدي و سالم بن حميدة و الشاذلي القليبي و غيرهم ما يشهد على ذلك.
3. و يمكن الاستدلال على أهمية البعد الثقافي في الفكر الدستوري بما شهده الحزب من تقلص للفكر المبدع بين صفوفه و ذلك منذ أن تخلى عن بعده الثقافي و اقتصرت اهتماماته على المسائل السياسية و الاقتصادية. و لنا اليوم من البعد الضروري ، ما يسمح لنا بالقول بأنّ تقلّص الفكر المبدع في صفوف الحزب ابتداءا من أواخر الستينات و أوائل عشرية السبعينات ترك المجال واسعا أمام هيمنة التصوّرات الضيقة. و هي تصورات عمل على فرضها مسئولون حوّلوا تراث الفكر الدستوري الخلاق و المبدع إلى أيديولوجيّة و سطية جامدة لم تقدر على فهم الواقع المتحرّك.
.4 و من الملاحظ أن عجز الأيديولوجيّة الجامدة على تأطير الواقع و مواكبة تحرّكه لم يتمكن المسئولون المنتجون لهذه الإيديولوجية من الوعي به، نظرا ل »نجاح » الوسطية الجامدة في مواكبة الحركة الاقتصادية و في المحافظة على مقاليد السلطة السياسية. غير أنّ هذا النجاح كانت له ضريبة ثقيلة و تكلفة سياسية باهضة كادت أن تؤدي بالبلاد و بالنظام إلى الإفلاس. وهذه الضريبة الثقيلة تمثلت أساسا في انخرام النسيج الاجتماعي و انقطاع الاتصال بين خلاياه، مما جعل الحوار صعبا و الوفاق بعيد المنال و أحال مبدأ الوحدة الوطنية إلى شعار أجوف.
5. يمكن الاستنتاج على ضوء هذه الملاحظات بأنّ الأزمة التي مرّت بها البلاد، و استفحل أمرها في أواخر الثمانينات لم تكن في الواقع أزمة نظام سياسي بقدر ما كانت أزمة ثقافية و أزمة هوية ركبها المتطرفون من الإسلامويين لتقديم بديل رهيب يجب تعريفه بأنّه قبل أن يكون مشروعا سياسيا بالمعنى الدقيق للكلمة هو في الواقع مشروع ثقافي مضادّ و سلبي من جملة أسباب ظهوره تناسي العمل الثقافي المبدع و المحرّر للعقول .
Répondre