حتى لا تساهم الكلمات في تعتيم الرؤية ولا تحرمنا من الرؤيا
ثمة علاقة أكيدة ما بين الواقع والكلمات التي نستعملها للدلالة عليه. لكن هذه العلاقة تتصف بعدم الوضوح لكونها ليست علاقة مُطَابَقة
فالكلمة بقدر ما تساعدنا على التفرقة العملية بين الأشياء هي في نفس ألان تعتمها. ومن ذكريات طفولتي في قرية أكودة الغراء (والتي أضاعت صفتها تلك بعد أن حولها التطور العمراني و الحضري إلى مدينة من ضواحي جوهرة الساحل) الطريقة التقليدية المتوخاة في الإعلان عن بيع الضيعات الفلاحية عن طريق « البراح » وهو شخص يمر بالشارع الرئيسي الذي نسميه السوق مناديا : « يا فلاحة يا قاصدين الربح خمسين زيتونة في الواد الغربي و بجنبهم مسقى وِلِي يحب الشراء يمشي يقلب ». « يمشي يقلب » معناها يمشي يعاين الزواتن على عين المكان. فبالنسبة للبراح تسمية الأشجار المعروضة للبيع و ذكر عددها وتفصيل موقعها لا يكفي لجعل السامع يقبل على الشراء ويدعو من له نية في ذلك بالتنقل إلى عين المكان للتثبت من عين الشيء.
فكلمة « زيتونة » كيس مغلق تحشر فيه الزمارية و الزراصية و الكبيرة و صغيرة السن الحويلة زيادة على أنه لا توجد في العالم أي شجرة مطابقة لأخري و تلك سنة الله في خلقه. و تتشعب علاقة الكلمات بالموجودات عندما يتعلق الأمر لا بالأشياء بل بالمجتمعات الإنسانية و ما يسوسها من علاقات بين الأفراد و الجماعات بمختلف أصنافها وأنواع و أشكال تنظيمها وكذلك عندما يتعلق الأمر بما ينتجه الإنسان من علوم و فنون. فأنت تقول « شعل الضوء » لترجو من مقابلك أن يشغل الفانوس الكهربائي و تقول في الآن نفسة بأن « الامبوبه متاع خمسة و سبعين شمعة تحرقت » معناها ما بقاتش تشعل. وهو ما يدل على أن كلامك غير مطابق للواقع و انك تستعمل الكلمات في غير محلها. وهو أمر من الخطورة بمكان لأنه يحول الكلمة إلى حجاب يجعلك لا ترى أن إنتاج الضوء بالإحتراق باستعمال المصباح الزيتي و الشمعة والڤاز يختلف نوعيا عن إنتاج الضوء الكهربائي حيث تصير القاعدة هي عدم الإحتراق أي نقيض القاعدة الأولى. واستعمال الكلمات دون التبصر فيما تحيل عليه من واقع خصوصي يعبر عنه في ما يسمى علم الإپستمولوجيا بالعأئق المعرفي و يقع ذلك كلما أسقطنا واقعا على آخر دون التنبه إلى أننا بفعلنا هذا نعتم رؤيتنا لكل من الواقعين .
و هنا أريد ان أنبه إلى أهمية مهنة الصحفي السياسي الذي قد يكون أداؤه لعمله أثناء محاورته للمشتغلين بالسياسة أو أثناء تبليغه عن واقع سياسي بأحداثه اليومية مساهما في التعتيم (عن قصد أو عنغير قصد) عن هذا الواقع الذي يفترض أنه يقوم بتسليط الضوء عليه. و ما بقينا نتحدث عن التعامل بين الأحزاب باستعمال كلمات المحاصصة و التوافق والتحالف و البرمجة المشتركة و التعايش و التساكن دون أن نوضح الفوارق الهامة بين الحالات التي تحيل عليها كل كلمة منها ستبقى صحافتنا و إذاعاتنا و تلفزاتنا تساهم في تعتيم الرؤية مكتفية باستغلال المجال السياسي للصناعة الإعلامية الملوثة للعقول .
فمتى سنأخذ في الآعتبار أن نمط تكوين نداء تونس يختلف عن نمط تكوين كل الأحزاب السياسية المتواجدة على الساحة وأن الديمقراطية بأنواعها المختلفة ليست الشورى و أن الإسلام علم وليس إيديولوجيا دينية وأن الأمة ليست القوم و أن الشعب ليس الجنس أو الملة وأن تغيير مجلس ألأمة إلى مجلس نواب أشر على تخلي الحزب الحاكم عن إسلام بورقيبه مكرسا لصفته اللايكية المسقطة من طرف الذين حولوا صفة الأكبر من الجهاد إلى المجاهد محنطين بورقيبه في صنم المحاربين القدامى و معتمين على ما يحيل عليه الجهاد الأكبر من مرجعيات إسلامية نبيلة. وأن تغيير المنظمات القومية التونسية إلى منظمات وطنية له دلالته التاريخية و أن حركة النهضة لم ترق بنفسها بعد إلى صيغة الحزب السياسي بدليل أنه لم تتمكن من ختم مؤتمرها التأسيسي بعد حصولها على التأشيرة التي أهدتها لها الثورة. فالتأشيرة القانونية أقل أهمية من شرعية المؤتمر الذي يقرر أثناءه نواب منخرطيه تحويل حركتهم السرية إلى مؤسسة مدنية تسير بشفافية في كنف احترام القانون . وكما نتحدث عن ضرورة إدماج النشاط الإقتصادي الموازي في الإقتصاد الوطني يمكننا أن نتحدث كذلك عن اقتصاد سياسي موازي سمحت به ظروف الفترة الانتقالية التي تم الخلط أثناءها بين الانتصاب السياسي الفوضوي و التفعيل السياسي لمستحقات الثورة و لا يكون هذا إلا في إطار دولة المؤسسات
ويبدو لي أن نداء تونس من المستحب أن ينظم مؤتمره قبل الصعود إلى سدة الحكم حتى لا يقع الخلط بينه و بين النهضة خاصة و أن كل منهما يدعى « »حركة » إشارة إلى النمط التعددي التجمعي لكل منهما. فتعدد التيارات و المنابع الفكرية المساهمة في الحركة الوطنية لم يمنع مؤتمري قصر هلال سنة 1934 من تسمية مؤسستهم الجديدة نوعيا بالحزب الحر الدستوري الجديد
أكوده في 28 أكتوبر 2014
Répondre