تكريس التخلف السياسي لليسار من طرف بعض قادة الجبهة الشعبية
ما لفت انتباهي في الحوارات التلفزية المحايثة للإنتخابات الرئاسية التقسيم المجاني للمتنافسين السياسيين بين شق ديمقراطي من جهة ومن جهة أخرى شق يحشر فيه كل المدافعين عن ضرورة ترميم هيبة الدولة من وقع ما عانت منه مؤسساتها السيادية و الإدارية من محاولة احتواء و تذييل من طرف حكومتي الترويكا. و قد حز في نفسي, بعد أن سمحت لي ثورتنا المجيدة مشاهدة التطور النوعي الذي أنجزه الشهيد شكري بلعيد في خطاب اليسار التونسي الذي يوصف تعسفا بالمتطرف, موقف بعض زعامات الجبهة و اخص بالذكر منهم المحامي النجم الذي أبكاني صوته المدوي بشارع بورقيبه ليلة 14 جانفي 2011, متجاوزا ترميزيا وقع موقفه الخطابي البطولي و المتحدي الذي مثله قبيل ذلك بيوم أو يومين بشارع باب بنات حيث استشهد ما يفوق المائة تونسي من الدستوريين المحتجين على محاكمة علي بلهوان يوم 9أفريل 1938
و الموضوع مطروح بصفة حارقة لآن عدم توضيحه سيكرس التخلف السياسي الذي تعاني منه نخبنا السياسية من اليسار. وهي النخبة العريقة في النضال بمعارضتها للواقع السياسي ما قبل الثورة و الذي وقع تجاوزه تاريخيا أثناء المرحلة الجديدة التي تعيشها الثورة التونسية. وأنا بقدر ما أدعو إلى اعنبار خصوصية كل مرحلة من مراحل تاريخنا المعاصر بقدر ما أؤكد على قراءة كل هاته المراحل كتمظهر تاريخي خصوصي يتميز به الشعب التونسي منذ أواخر القرن التاسع عشر. كما ذكر بذلك شكري بلعيد في مداخلة تلفزية تاريخية بقناة نسمة يعتبرها الكثير من أسباب قرار اغتباله. وقد سبق لي و أن أشرت في الإبان غداة استشهاد شكري إلى ضرورة أن يقوم رفاق نضاله من الجبهوويين بتحويل قيمي لخطابهم السياسي يساعد قواعدهم على المرور من مرحلة « الوعي الثوري » المجيش للبشر إلى مرحلة الوعي السياسي الذي يجعل منهم فرقاء سياسيين مسؤولين قادرين على المنافسة السياسية الديمقراطية و على تحمل مهام الحكم بجدارة و اقتدار.
وقد صرح عبد الناصر العويني بأنه لن يدعو للتصويت للمرزوقي لأن هذا الأخير قد أخرجته ممارسته للسلطه و تحالفاته السياسية من صف الديمقراطيين دون الإقرار بانتماء الباجي إلى صف الديمقراطيين هو أيضا , مكتفيا بالقول بأن ما يتميز به قايد السبسي يتمثل في تجربته في تسيير دواليب الدولة. مشيرا في الآن نفسه إلى أنه يعول على نضج الشعب لمنعه من التغول وذلك احترازا مما قد يحن إليه الباجي من معاداة للديمقراطية تعود عليها أثناء مشاركته في الحكم في العهد البورقيبي. و مثل هذا القول لا يختلف نوعيا عن موقف المرزوقي و زمرة حزب المؤتمر الذين يعرضون على الجبهووين إحياء تحالف الديمقراطيين ضد نظام بن علي الذي أطاحت به الثورة و وقع دفنه نهائيا من طرف الشعب التونسي أثناء الانتخابات التشريعية الآخيرة, جنبا إلى جنب مع أحزاب المعارضة السياسية لنظام بن علي
و ظني أنه من الخطر مجاراة الأحزاب التي لم تعرف من التجربة السياسية الا الإنتصاب الفوضوي (الذي سمحت به الفترة الإنتقالية) في تقسيمها المغلوط للمشهد السياسي بين من ينسبون أنفسهم للتيارت الديمقراطية من جهة و العاملين على ترميم هيبة الدولة من جهة أخرى. والإكتفاء بالقول بان التقارب التكتيكي الممكن بين الجبهة و نداء تونس لا تشرعه إلا الواقعية السياسية التي تفرض على « الثوريين » أن يتجاوروا مع حزب الباجي لما يمثله من تواصل لمؤسسات الدولة التي بدونها لا مجال لأي ممارسة ديمقراطية (فلا وجود للحرية خارج الدولة يقول هيڤل). وهوقول يكرس مفاهيم خاطئة للديمقراطية و للدولة و هيبتها في نفس الآن.
وقد يكون أساس تحليل بعض القيادات الجبهوية للوضع الحالي الذي تمر بها الثورة و للواقع الجديد الذي أفرزته الإنتخابات التشريعية و الجولة الأولى من الإنتخابات الرئاشية ما يستلهمه البعض منهم من أمثلة جاهزة للتحولات الديمقراطية التي عرفتها البلدان الأوروبية . حيث تعمد اليسار الإبقاء على التقنوقراطيين من النخبة الحاكمة السابقة لفترة من الزمن في انتظار تعويضها بكفاءات يسارية تكون قد تمرست إلى جانبها على تقنيات التسيير. وهو نفس الموقف الذي حاولت النهضة العمل به بزرعها لأتباعها داخل الإدارة التونسية دون الآستغناء عن الإداريين القدامى . و ما لم تفلح فيه حركة النهضة التي استعجلت الأمر فاعتبرت الدولة غنيمة تنهب قد يفكر بعض الجبهويين التخطيط له على الأمد الطويل. وهو ما قد يفسر عدم إقبالهم على المشاركة في إيجاد صيغة جديدة للحكم التشاركي تختلف عن المحاصصة الحزبية. وذلك بالإكتفاء بلعب دور المراقب الغيور عن مصلحة الشعب في انتظار اكتساحهم للساحة السياسية بالطرق الديمقراطية.
و هنا أريد أن ألفت انتباه رفقاء شكري بلعيد إلى أن ما توصل إليه الشهيد من « وعي سياسي مثقف » قد لا يقع استثماره في خدمة تونس معتبرين مصلحة الزعماء الورثة قبل مصلحة الأحزاب و مصلحة الأحزاب قبل مصلحة الوطن. و هم بذلك سيعيدون نفس الخطأ الذي قام به قادة الحزب الإشتراكي الدستوري بتخليهم عن الفكر البورقيبي ابتداء من أوائل الستينات. و الصراع على السلطة ذو طبيعة مضادة « للثورة الممكنة » سواء تمظهر داخل حزب في الحكم أو داخل حزب في المعارضة. و كل هاته الممارسات السياسية « غيرالمثقفة » لا يمكن أن ترقى بصاحبها إلى مستوى الرؤيا الديمقراطية للوجود التي هي اساس العمل السياسي المبدع و الصانع للتاريخ. و مفهوم الديمقراطية التي يرفض العويني سحبها كصفة على الباحي أريد أن أشير إلى أنه عندما نعزل ممارسة الحكم المدني عن ممارسة الديمقراطية اللصيقة به نجعل من الديمقراطية مطلبا مبدئيا ذي صبغة نظرية إيديولوجية لا تهيئ المعارض للتداول على الحكم. كما هو مطلوب بعد أن بدأنا بالفعل ممارستنا الديمقراطية المتقدمة.
ومن هنا نفهم ضرورة التخلي عن الخطاب الثورجي المطبوع بما ترسب في العقول أثناء فترة ما قبل الديمقراطية. لآن الإستعمال الإيديولوجي لمفهوم الديمقراطية لا يمكن الذي يكتفي برفعها كشعار من رؤية ممارستها على أرض الواقع على مستوى تفعيلها السياسي عن طريق ممارسة السلطة. لآن الممارسة الديمقراطية للسلطة ليست تطبيقا لنظرية الديمقراطية بل ممارسة لها. و المارسة تختلف عن التطبيق. و السياسة عندما تتخذ ركيزة أساسية لها المنهج الديمقراطي في الحكم تتحول إلى ضرب من الفنون يصعب فهمه على محترفي القضاء و المختصين في المحاماة و الحقوق الذين لا يرتقون بأنظارهم إلى مستوى المبدعين فيبقون غير قادرين على تقييم العمل السياسي الديمقراطي. و الممارسة السياسية المتقدمة تدخل في باب النشاط الحضاري المنتج للأمم . والأمم تختلف عن القطعان و القبائل و التجمعات البشرية المبنية على تقليد البشر للحيوان باعتماد الغريزة و التفريط فيما ميز الله آدم به عن ملائكته المقربين وهي ملكة العقل الغير الجاهل بحدوده.
و من يتفحص في مسيرة الباجي قائد السبسي السياسية يرى أن الرجل لم يكن بورقيبيا تابعا أو متزلفا بل كان إلى جانب دستوريين آخرين شاعرا بضرورة تقوية نظام الدولة الحديثة البورقيبية المنحى بتركيز نظام ديمقراطي متقدم يضمن لها الديمومة و التطور. و قد يصح القول بأن مطلب هؤلاء منذ بداية السبعينات ,( كما أشار إلى ذلك صديقي احمد سحنون في تذكيره على الفايسبوك بحيثيات مؤتمري المنستير) كان سابقا لأوانه. كما فكر بورقيبه. و لكننا يمكن أن نفهم اليوم أن ديمقراطية ممارسة السلطة هي أكثر تجذرا في الواقع من ديمقراطية الإختيار الفكري الذي قد يستعمل شعارا انتخابيا يتحول رافعه إلى مستبد بعد صعوده الى سدة الحكم. مثلما هو الحال بالنسبة للمرزوقي و من شابهه من راكبي الثورة.
و القادرون على التذكر و الذكرى يمكنهم الرجوع إلى تصريح الباجي يوم استلم مسؤولية تسيير البلاد في الفترة الانتقالية الأولى عندما قال أن الغاية من الثورة إرساء الديمقراطية و إرساء الديمقراطية يتطلب الحفاظ على مقومات هيبة الدولةو ما تعيشه تونس اليوم تطبيق لهذا البرنامج . وقد تولى تنفيذه بكل حذق سياسي من مركز السلطة أثناء الفترة الآنتقالية الأولى ثم من مركز المعارضة بعد تأسيسه لنداء تونس
أكوده في 2 ديسمبر 2014
الناصر بن الشيخ
Répondre