منذ الأيام الأولى من ثورتنا التونسية الجميلة كتبت مقالا نشرته على الفايسبوك و في موقعي على الانترنيت و في الصحيفة اليومية المكتوبة الشروق التونسية عنونته كالآتي : « ثورتنا لها رب يحميها و لا خوف عليها إلا من الذين نصبوا أنفسهم حماة لها ». أي بمعنى آخر لا خوف عليها حتى من الذين نصبوا أنفسهم حماة لها لأن الرب الذي أعطى شبابنا الإيمان بأن الشعب الذي ينتمون إليه و الذي لا يتجاوز أغلب أفراده سن الثلاثين بإمكانه أن يسترد كرامته المسلوبة بالتخلص من مستبد جاهل لا كرامة له. و لا يمكننا تفسير ما حدث دون هذه المرجعية الربانية التي استلهمها شعبنا بتوقه المطلق و الجماعي للحرية و الكرامة. و التوق للكرامة و للحرية يرفع البشر إلى مرتبة آدم عليه السلام الذي حباه ربه بالعقل دون سائر المخلوقات السابقة له في الوجود جاعلا منه خليفته على الأرض.
و ما يحدث على الساحة السياسية التونسية و ما تعرفه مختلف البلدان العربية الأخرى من ارتجاج للعائلات المالكة التي تتحكم في مصائر شعوبها بالظلم و العدوان يثبتني على رأيي في أن الثورة التونسية مثل البيت الذي بمكة لها رب يحميها.
والقول هنا لا يحيل على خطاب ديني قدري توكلي إستقالي بل إن ما اعني هو مقاربة للأحداث تتجاوز في تصورها للوجود « الرؤى السياسية » المختلفة التي تسود على الساحة و « تصول و تجول فيها » باللهجة لعامية التونسية ( أي بالبدء بالساكن). و هي تصورات يدعي أصحابها تثوير الواقع وتغييره بالاعتماد على التصورات النظرية المؤدلجة. و إن ما يحمي ثورة تونس يتصل أولا و قبل كل شيء بكونها ثورة شعبية تشاركت في إنتاجها كل القوى الحية دون تخطيط و تصور سياسي إيديولوجي مسبق.
والتشارك تفاعل وتفعيل « مع و ل » واقع لا نقوم بدور الفاعل فيه بل بالاستجابة التلقائية للنفس الرباني الذي يسكن الشعوب قبل الأفراد فيجعلها تستجيب القدر. و هو ما يختلف عن الدخول المخطط في شراكة سياسية بين أحزاب لا يجمع بينها إلا « النضال » من أجل تغيير نظام جائر بآخر مع إرجاء النزاع أو التوافق فيما بينها حول طبيعة النظام الجديد الذي يعد كل طرف بأنه لن يكون مستبدا معيدا لما سبق.
و من حسن حظ الثورة التونسية أن الإطاحة بنظام الفساد الذي أسسه الجنرال لم يكن نتيجة « فعل بطولي » قام به مناضلون سياسيون أو تجمعات متحزبة أو انقلابيون ثوريون « ضباط أحرار ». وأبطال ثورتنا هم الشهداء الذين ضحوا بحياتهم فخلصوا الشعب التونسي من كابوس الخوف فأزاح الطاغية بعد أن تملك من هذا الأخير الهلع الذي أوقعته فيه الشجاعة المطلقة التي أراها إياه شعب أعزل لم يعد يتحمل الظلم و فقدان الكرامة.
و من الملاحظ أن الذين استهوتهم الانتفاضة الشعبية من ذوي الطموحات السياسية المشروعة فانخرطوا في مساندتها بعد أن تأكد لديهم عزم الشباب القائم بها على التصعيد المستمر لحركتهم الاحتجاجية السلمية لم يكن بإمكانهم إلا الاعتراف بأن انتفاضة تونس ثورة بدون قيادة مما جعل ركوبها صعبا و دفع بالذين لا يمكنهم تبنيها إلى ملء الفراغ القيادي (والذي يؤسس لما أسميته بالبعد الرباني لثورتنا الشبابية المباركة) بالاستشهاد « البطولي » للمرحوم محمد البوعزيزي و لو أدى ذلك إلى التظلم على امرأة دافعت عن شرفها من عنف لفظي مارسه إزاءها هذا الأخير فردت على الإهانة بالمثل و كذلك إلى التعتيم الغير المقصود عن الذين أقدموا على الاستشهاد في مسار ثورة معلنة احتجاجية تحريرية جماعية تتجاوز البعد الفردي لما قام به البوعزيزي فأشعل فتيل الثورة من حيث لم يكن يدري .
و لا غرابة في أن ملء الفراغ القيادي بشخص بعينه تسبب في « ترويض » ما وقع بإعطائه بعدا « أسطوريا » جعل الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة يختزل الثورة فيما أقدم عليه البوعزيزي من إحراق لنفسه وهو ما قد يكون ذكره بما قام به الراهب البوذي زمن حرب الفيتنام التحريرية.
ولا غرابة أيضا في أن التفسير الأسطوري لدور البوعزيزي و الذي وقع من خلاله نزع كل بعد روحي عن ثورة الشباب التونسي فتح الباب لكل التأويلات « التاريخية الوضعية البطولية السياسية و أدخلها في باب المسارات الثورية الغائية و المتعمدة . وكان الأثر السلبي لهذه التأويلات ظهور مزايدات مرضية بين الجهات حول « مفجري الثورة الحقيقيين » تمثلت بالخصوص في إرجاع شرارتها الأولى إلى أحداث الحوض المنجمي التي لم يكتب لها الانتشار بالرغم من مساندة وسائل الإعلام العالمية لها و استعمال قادتها الشبكات الاتصالية الاجتماعية على الانترنيت.
والذي يمكن استخلاصه مما آلت إليه عملية « أسطرة » البوعزيزي هو أن ما أشعل فتيل الثورة ليس النار الحقيقية التي أضرمها هذا الشاب في جسده و إنما صورة التقطت بهاتف جوال تناقلتها وسائل الإعلام العالمية و تلقفها شباب الفايسبوك . أما وقودها فلم يكن إلا توق الشعب التونسي المثقف ذي الأغلبية الشبابية إلى الحرية و الكرامة. بما فيه شباب سيدي بوزيد الذي أظهرت مواقفه من محاكمة الآنسة حمدي أن مظاهرته الأولى تتجاوز التضامن القبلي مع محمد البوعزيزي الشخص و تتصل بشرعية ما يحس به أبناء تونس الأعماق من تهميش لم يعد يطاق.
أما الذين لا يهمهم من الوضع الجديد الذي خلفته الثورة إلا ملء الفراغ الذي أحدثته على مستوى السلطة و يبتغون ركوبها متناسين حرمة شهدائها وبعدها القدسي الأكيد فظني أنهم لن يتمكنوا من ذلك. و أخص بالذكر منهم « الاسلامويين » الذين يتأسس تسييسهم للدين الحنيف في البدء بالقضاء على نواة الإبداع فيه و إفراغ فكره المحرر من مرجعيات العقلانية النورانية التي تميز الإسلام عن بقية الأديان السماوية.
و من زاوية النظر هذه يمكنني القول بأن الشباب المبدع الذي قام بإخراج مظاهرة الرابع عشر من جانفي و أغلبه ممن يوصفون باللايكيين هم أقرب إلى جوهر إسلام القرآن من دعاة « تكنيس » الرسالة المحمدية قصد إضفاء بعد أسطوري على القساوسة و الأحبار الجدد الذين استبدوا بآخر الأديان السماوية و أحالوه إلى مشاريع خاصة للاستثمار السياسي و الاقتصادي الليبرالي.
و القرار الجريء الذي اتخذته محكمة سيدي بوزيد بتبرئة ساحة الآنسة حمدي مما لحقها من ظلم جماعي تسببت فيه « أسطرة » الثورة من طرف مؤدلجيها من شأنه أن يذكر كل المشتغلين بالسياسة انه سيصعب عليهم مواصلة تناسيهم للبعد الرباني لثورتنا المقدسة دون أن يكتشف عاجلا أو آجلا أمرهم للعيان فيصيروا عندها من الخاسئين .
الناصر بن الشيخ
2 réponses
ezzdine knani
ان البوعزيزي كرمز لثورة شباب تونس الرقمية الشعبية اكد مكسبا ثوريا تمثل في مسالة دقيقة جدا حررت القضاء الذي هو في طريق الاستقلال من هيمنة السيطرة السياية المسلطة عليه منذ زمان وخاصة في هذا النوع من القضايا وبالتالي فان رمزية البوعزيزي تظل قائمة الى الابد وهي التي سكون مرجع تحاليل لكل من سيتحدث عن ثورة تونس من الزوايا التي يريدها بما في ذلك المفكرون الاجانب والباحثون وكذلك السياسيون ,ثم ان الفكر الظلامي الذي انطلق منذالبداية في ضرب رمزية البوعزيزي واعتبارالحادثة انتحارا محرما دينيا ومال صاحبه جهنم قد يغذي هذه الرؤيى الغيبية ويعششها في اذهان العامة وادا للثورة بعد ان ركبها سماسرة هذا التوجه لاسباب دعائية يكسبون بها اصوات البسطاء من الناس على ان كل ماحصل في بلادنا قضاء وقدر محتومين
Tailynn
You’ve hit the ball out the park! Inrecdible!