الباجي قائد السبسي و التفعيل السياسي لثورة 17 ديسمبر 14 جانفي
الثورة التونسية لم تكن « انفجارا عنيفا قابله عنف الدولة المضاد الغير المتدرج » بل الملفت للنظر هو الصفة الانتفاضية (بالمفهوم الفلسطيني للإنتفاضة في فترتها الأولى التي خطط لها الشهيد خليل الوزير) من جهة و ما قامت به أطراف ما زالت مجهولة من تأجيج للوضع باستعمال الذخيرة الحية لقمع مظاهرات سلمية كانت أقرب لثورة أطفال الحجارة منها للجهاد المسلح (الذي وقع عن طريقه تغيير وجهة الثورة السورية و تحويلها إلى حرب على سوريا تحت غطاء مساعدة الشعب السوري على التخلص من نظام الأسد). وقد يكون استعمال الذخيرة الحية من طرف قناصة مجهولي الهوية جزءا من الجانب التآمري المسكوت عنه لغاية الحفاظ على البعد السلمي للثورة التونسية وحماية مسارها الانتقالي الخصوصي الذي رسمه لها الباجي قايد السبسي منذ بداية تقلده خطة الوزير الأول للفترة الانتقالية الأولى. وهي الخطة التي أعلن عنها منذ أول ندوة صحفية قام بها بعد تعيينه وزيرا أول من طرف الرئيس الانتقالي فؤاد المبزع. و كان صرح مباشرة بهويته السياسية البورقيبية موضحا أن الثورة تتمثل في إرساء الديمقراطية وأن ما يتأكد عمله هو عدم المساس من هيبة الدولة و حماية الغايات القصوى للثورة و المتمثلة في تحويل النظام الموروث عن دولة بورقيبة إلى نظام ديمقراطي متقدم.
والثورة بهذا المعنى تمثل في الواقع من وجهة نظره، المناقضة للثورجية، الفرصة التاريخية التي جاد بها القدر لإنجاز ما لم يقدر عليه بمعية الديمقراطيين الاشتراكيين داخالحزب الاشتراكي الدستوري وهو إقناع بورقيبة بالتسريع في إرساء الديمقراطية كمنهج تسيير للبلاد وذلك في مؤتمر المنستير الأول الذي انعقد في المنستير على امتداد خمسة أيام بداية من 11 أكتوبر1971، وهو المؤتمر الذي انعقد بعد ثماني سنوات من مؤتمر المصير سنة 1964 ببنزرت. و كان الرئيس الحبيب بورقيبة افتتح المؤتمر بخطاب قال فيه بالخصوص «ان الديمقراطية طريق وعرة خادعة ينبغي التقدم فيها بخطى ثابتة ولو اعتبرها البعض وئيدة بطيئة، فسياسة الشعوب تتطلب الأناة والتبصر الشيء الكثير، وكذلك ان نحن أردنا الاسراع في تطوير الأوضاع السياسية بأكثر ما تطيقه عقلية الشعب وتتقبل درجة النضج التي بلغها فإننا نكون قد عرّضنا البلاد لمخاطر الديمقراطية الغربية التي لا تلائم أوضاعنا ولا تتناسب ومقدار وعي الجماهير عندنا».
. و موقع الباجي قايد السبسي بعد الثورة يحتم عليه أن يكون خطابه موزونا ظرفيا غايته خدمة الخطة بتوخي منهجية المرحلية وتقديم الأهم على المهم. والخطاب الظرفي لاتكون غايته تشفيف الرؤية بل جعل ما نقوله لا يساهم في إرباك خطة حماية الثورة مما قد يفعله بها المتآمرون من الداخل و الخارج و من متسلقيها من الأعشاب الطفيلية المتمثلة في الإنتهازيين القدامى و الجدد. فنكرانه المستفز لوجود القناصة ، مثلا ، في ذلك الظرف الخطير الذي أقر محمد الغنوشي بعدم قدرته على مجابهته يمكن اعتباره مثالا للتصرف السياسي الناضج و الذي يحتم على المسؤول أن يضحي بما يبدو مهما (وهو أن يبدو صادقا في أقواله) للتغطية عن موضوع لا يساعده طرحه في دلك الظرف على تعبيد الطريق الموصلة إلى التحقيق المرحلي لما هو أهم. وهو انجاح مسار الثورة بانجاح الفترة الانتقالية في تركيز الديمقراطية المتقدمة التي نبتغيها لتونس . كما أن ما عبر عنه أثناء لقائه بأصحاب القرار من الأمريكان من عدم تخوفه من صعود الإسلاميين إلى الحكم، معللا ذلك بأن إسلاموي تونس يختلفون عن إسلاموي بقية البلدان العربية يمكن فهمه في ظرفه ومقامه بأنه تصرف ينم عن بعد نظر يرتقي إلى مستوى الاستراتيجية متوسطة المدى . وهو، في الآن نفسه، موقف ناتج عن فكر ديمقراطي متأصل في فكر رجل لا يؤمن بالإقصاء و مقتنع بالأساس بخطورة التغول مهما كان مأتاه لما يمثله هذا الأخير من إجهاض أكيد لمشروع الديمقراطية المتقدمة التي يبتغي إرساءها .
فغاية الباجي قايد السبسي و هو في هاته المرحلة المتقدمة من العمر ليست » تتويج حياة سياسية ناجحة بالتربع على عرش قرطاج » كما يروج له بعض السذج وأصحاب النوايا غير الحسنة، بل في الإنضمام إلى الزعيم بترسيم إسمه في مساربناء الدولة التونسية الحديثة. وذلك عن طريق قيادته السياسية للثورة. وتختلف قيادة الثورة عن تزعمها فقيادة الثورة تفعيل سياسي لها لكونها فرصة لارساء نظام ديمقراطي متقدم تونسي أصيل.
والطريقة التي سمح من خلالها لتنظيم النهضة بأن يباشر الحكم بكل ديمقراطية تذكر بموقف الفيلسوف الفرنسي روسو عندما يوصي في كتابه « إميل » بأن يترك المعلم التلميذ يقع في الخطإ و يضر بنفسه حتى يتعظ من التجربة السلبية و يتعلم بحق ويرتقي إلى مرحلة النضح . وهذا التمشي البيداغوجي سمح بالفعل بتلقيح أغلبية الشعب التونسي ضد الأمراض « الطبيعية » التي تصيب المراهقين السياسيين مهما كانت سنهم البيولوجية. و موقفه هذا يدخل كذلك في باب التفاؤل اليقظ و افتراض النية الحسنة للطرف المقابل مع الحيطة الضرورية . فبالرغم من الكوارث الجسيمة التي تسبب فيها صعود الترويكا إلى الحكم فقد سمح الوضع المتأزم بأن يتمرس الشعب التونسي على ممارسة الصمود الديمقراطي و أن يساعد حكومة التكنوقراط على إنجاح الفترة الانتقالية الثانية بالرغم من عوائق المجلس التأسيسي المريض بالتغول و الرئيس المحرض على الإرهاب.
وفي أقل من ثلاث سنوات تمكن الشعب التونسي من الارتقاء بنفسه إلى مستوى من النضج السياسي سمح له بأن يزيح، ديمقراطيا، من الساحة كل ألأحزاب الموروثة عن نظام بن علي بما فيها أحزاب المعارضة الكارتونية و المعارضة الحالمة الطوباوية وحزب الحاكم ،الكارتوني أيضا، وهو تجمع القروي و الزواري و الغرياني. وقام بمساعدة منظمة النهضة على الإرتقاء بنفسها إلى موقع البدء في إنجاز قادتها لمتطلبات المرحلة بعد أن دخلوا مرحلة الشفاء مما اعتراهم من مرض التغول،الجيني بالنسبة لمنظمتهم، ذات الآفاق الفكرية الإرهابية اللاسياسية
Répondre