V
هذا جزء من محاضرة ألقيتها سنة 1992 بدار الثقافة بحي الحديقــــــــــــة من معتمدية حي التحرير بالعاصمة في إطار جمعياتي « تجمعي ». و لقد حاولت نشره في جريدة الصحافة فترة إدارتها من طرف المغفور له محمد محفـــــــــوظ ونُشر الجزء الأول من المحاضرة و لم تُتبع كلمة يتبع بالبقية إدعاء و أن النص قد ضاع و هو نص مخطوط و لم يبق لدي الا تسجيـــــــــل سلمته سنة 2008 للصديق عبد الحليــــــــــم المسعـــــودي لتحويله الى نص مكتــــوب و مرقــوم و هو ما تفضل بالقيام به مشكورا. وفي ما بين فترة القاء المحاضرة و تحويل التسجيل الى نص مكتوب أشير علي بالمباشر بأن اكف عن التنظيـــــــــــر في المسالة الاسلاموية حتى لا أشوش عن الخطة الرسمية التي تبنتــــــــها وزارة الداخلية بإتجاه الحل الأمني ووزارة الشؤون الدينية با عتمادها شعار « زين العابدين حامي الحمى و الدين » و فكر صخر الماطري مؤسس إذاعة الزيتونة بمباركة راشد الغنوشي.
يتّفق أغلب الدارسين للتيارات الدينية المتطرّفة في العالم، و التيارات الإسلاموية جزء منها، على تزامن ظهور هذه التيارات بمرور المجتمع بما يسمّى بأزمة هويّة عميـــــقة تشكّكه في قدراته على مواجهة تحدّيات الواقع الموضوعي. و هي ما نشير إليه عادة بتحدّيات الحداثة أو تحدّيات العصر
2. كما يعرّف علماء الاجتماع أزمة الهويّة هذه بأنّها حالة مرضيّة مصدرها خوف من المستقبـــــــــــل و رفض للحاضر و هروب للماضي طلبا للنجاة، و يفسرون ظهورها بحدوث اختلال في نسق النمو بين الواقع الاقتصادي السريع التطور، من جهة، والواقع الثقافي الاجتماعي المتردّي، من جهة أخرى. و المعني هنا بالواقع الثقافي الاجتماعي يتجاوز في محتواه ما تعنيه كلمة ثقافة في مفهومها السائــــد و الذي يحصر الثقافة في جملة الأنشطة الإنتاجية و التظاهرية التي تهتم بشؤونها وزارة مختصة في رعاية و تشجيع الآداب و الفنون و التعريف بالتراث والحفاظ عليه. كما أن الإشارة إلى البعـــــــــــــــــد الاجتماعي لهذا الواقع تعني تجاوز المفهوم السائد الذي يحصر العمل الاجتماعي في جملـــــــــــة من الإجراءات المادية المختلفة, من ضمانات اجتماعية متعددة و تأكيد عملي لحقوق الفرد في التّعليـــــــــم و الصحّة والعمل. فالمعني هنا بالواقع الثقافي و الاجتماعي يتمثل أساسا في حركة الاتصــــــــــــال الاجتماعي بين الأفراد و الجماعات من خلال قنوات اتصالية تربط بين خلايا الجسد الاجتماعي الحيّ، و التي يضمن تواجدها و استعمالها لهذا الجسد قدرتـــــــــــــه على التجدّد و على تجاوز أزمات النمو و التطوّر الطبيعيّة.
3. ويلاحظ علماء الاجتماع أخيرا، أن الشرائح الاجتماعية التي يمسّها الاختلال قبل غيرها تنتمـــي في أغلبها إلى نوعين من المجموعات و هما مجموعة المتخصّصين في العلوم التقنية والتطبيقيـــــــة من المتعلمين من جهة ( والمتعلم يختلف عن المثقف) ومجموعة المهمّشين اجتماعيّا و اقتصاديّا من جهة أخرى.
أولا : المتخصٌصون في العلوم التطبيقية:
4. تشير بعض الدراسات التي قام بها الأخصائيون في مراكز البحث العلمي بفرنسا أن المتعلمين الأكثر تقبلا لنظريات التطرف الديني هم المتخصّصون في العلوم التطبيقية. غير أن هـذه الدراســــــات تلاحظ الظاهرة دون البحث عن الأسباب التي تؤهل العلمانيين التقنيين لتقبل مثل هذا الخطاب الديني الغيبي و اللاعقلي. و هو ما سنحاول التطرق إليه من خلال تقديم سريع للنمــــــط الفكري السائد لدى هؤلاء المتخصّصين في العلوم التطبيقية
يرى علماء النفس و مفكرو ما يسمّى بالفلسفة العمليــة La philosophie pratique أن الفكر العلمي التقني السائد يتّصف بالتّركيز على ضرورة الجدوى في التعامل مع الواقــــــــــع و على التمشي العلمي الناجع في بسط المشاكل التي تعترضه مما يتطلب من المتخصّص أن يحيل عقله العاقل إلى عقل آلة. و هو ما يعبّر عنه المفكّر الألماني المعاصــر ماكس هركهايمر MaxHorkheimer ب. Instrumentalisation de la raison
والعقل الآلة يختلف عن العقل العاقل raison raisonnante. فالأول أي العقل الآلة كثيرا ما يكون جاهلا بحدوده و غير قادر على موضعة نفسه و على التحكم فيها بربط أعماله بغايـــــــــات ذات صبغة روحانية ايتيقية (أنظر كتاب La Barbarie للفيلسوف الفرنســي المعاصــر Michel Henri. وأما الثاني وهو العقل العاقل فيكون قبل كل شيء عاقــــــلا لنفسه من عقل الشيء، أي ربطه معترفا بحدوده، أي مرتبطا في أفكاره العمليّة بقيم ذات صبغة روحانيّة إيتيقية ، يتوصّل الى إقرارها من خلال إعماله لملكة التفكير، لا من خلال خضوعه اللاعقلي لقيم « أخلاقية » تفرض عليه.
و يرى الفكر العملي الفلسفي المعاصر أن الوعي الخصوصي بالوجود الذي يتصف به المتخصّص في العلوم التطبيقية، إثر تحويل عقله إلى آلة، يتميّز بالحالات التالية:
أ- الثقة اللامحدودة بعقله الآلة واعتقاده بقدرته الفائقة على القيام بأعمال مجدية لها « مردودهـــــــــا » المادي الملموس باستنباط حلول تقنية فاعلة في المحيط الطبيعي المباشر. و هو ما يجعله كثيرا ما يخلص إلى القطع المطلق في المسائل المتعلقة بالواقع الإنساني المتصل بالسيّاسة و الاقتصاد و بالتّنظيـــــــــم الاجتماعي.
ب- اعتبار العلوم الصّحيحة معرفة لا مجال للشك في نتائجها الآنية. و اعتقـــــــاده هذا، يحرم المتخصّص، الذي يتحول عقله إلى آلة، من القدرة على الابتكار و الإبداع حتى فــي حقل تخصّصه. و يبقى مطبّقا لما تعلّمه دون إمكانية تجاوزه بإثرائه. وهو ما يختلــــف عن نمط إنتاج الفكر العلمي المُعتمَد لإبداع التكنولوجيات الحديثة. فالعقل الآلة لا يمـــــــكّن صاحبه إلا من استهلاك هذه التكنولوجيات. مع الإشارة الضرورية لما ينتج عن هذا الموقف الاستهلاكي من استلاب وحالة تبعيّة كثيرا ما تضرّ نتائجها بالمحيط الخصوصي الذي ينتمي إليه المتخصّص.
ج- نتيجة لقبوله المبدئي بالتخصّص في العلوم التطبيقية كثيرا ما يقرّ هذا المتخصّص بعدم فهمـــــه لنمط إنتاج الفكر الثقافي غير النفعي و غير المجدي ظاهريا و الذي يهتم بمسائـــــــــــــل أساسية تتصل بالروحانيات و بالفنّ و بكل ما يتعلق بما يسمى بالبعد الوجدانــــــــــي للوجود من أدب و فلسفة و تفكير في مواضيع الحياة و الموت و الحب. غير أن عدم تفهّــــم المتخصص التقني لنمط إنتاج الفكر الثقافي يعني في الآن نفسه غربته عن ذاته العميقـــــــة و فقدان هويّته الفاعلة في التاريخ. و الهويّة بهذا المفهوم في علم النفس المعاصر تعني شعور الفرد، العميــــق، بتّوازنه الداخلي بين شعوره بذاته المفردة و بحاجته للتّغاير. فيكون الشخص المتزن غير الفاقد لهويّتـــه « مغلقا مفتوحا ». « مالكا لنفسه و مِلكا لغيره ». و الغير هنا قد يعني، حسب التّسلسل القيمي، الله ،مالك السموات و الأرض أو المجتمع الذي ينتمي له الفرد، أو الآخر، بمفهوم الفرد المقابل، في إطار العائلـــة أو وحدة السكن أو وحدة العمل
تعويض فقدان الهويّة بالتكامل المنفصم بين المادة و الروح.
و تتمثل هذه الظاهرة في أنّ عدم تفهم المتخصّص التقني لنمط التفكيــــــــر الثقافي، و الذي تنتج عنه غربته عن ذاته العميقة وفقدانه لهويته، يجعله يشعر بالحاجة الملحّة، على مستوى اللاوعي، لتأكيـــــــد هويّته الغائبة. وهو ما تعبّر عنه المنظومة الفكرية الغربية بالحاجة إلى الروحانيات إلى جانب إشبـــــاع الحاجة للماديات.
والوعي الثقافي الروحاني بالوجود يمثل على هذا الأساس الوعي الشامل والموحد لذات الفرد. هــــذا الوعي الذي يضمن له اكتساب هويته الفاعلة في التاريخ بالمفهوم الإيجـــــــابي للفاعليّة. فالفاعليّة، بالنسبة للفرد المؤمن، الغير الفاقد لهويّته، لا تكون نتيجة عزل أفعـــــال الإنسان الفرد عن الغايات الربانيّة بل في التوكّل على الله، و التعويـــــــــــــل على الذات. و التوكّل يختلف عن التعويل. والمؤمن يتوكّل على الله و يعول على نفسه.لأن الله، في أفق نظره، قريب، رحيم، معين. و أينما توجه المؤمن فذاك وجه الله. و هذا التعريف للفاعلية يختلف عن الفاعلية التقنية الجاهلة بحدودها و المضرّة بالإنسان و بالمحيط.
غير أنّ هذا الشعور بالتوازن الذي يمكن أن يحس به الفرد يمثل وعيا خصوصيّا بالوجود، اتصف به المتصوفة الوجوديون داخل المنظومات الفكرية الخصوصية للأديان السماويّة الشرق أوسطية المنبع، وهو تصور يلتقي، في نظرته للوجود، مع تيارات الفلسفة العمليّة التي بدأت تطفو على الساحة الفكرية الغربية منذ أواخر السبعينات اثر تجاوز فكر ثورة 68 دون تجاهل مسبباتها الموضوعيّة.( أنظر كتاب . Ricœur Paul للفيلسوف الفرنسي Soi-même, comme un autre.
أما الروحانيـــــــــــــات التي يتحدث عنها الغربيون من خلال الميراث الثقافــــــــــــــــــي اليونانــــي المتكامــــــــــــل مع ما يسمـــــــــى بالفكــــــر اليهـــــــــــودي المسيحــــــــي (La pensée Judéo-chrétienne) فتتمــــــــــثل في البعـــــــــــــد الغائـــــــــب عن الوجـــــــــود. ومن هذا المنطلق يتعامل معها نمط إنتاج الفكر الغربي السائـــــد بصفة غيبية، أي لا عقليّة، باعتبارها من الكماليات الروحانية (Un supplément d’âme) وليس كحاجة ضروريــــــــــــة يمليها العقل العاقــــــــــل لنفســـه و عليها، اعتبارا منه للبعد الأساسي الذي يمثله لديه التكامل بين المادة والروح للوجود الإنساني.
و بقدر ما يكون الفكر متخصّصا في العلوم التطبيقية و مقتصرا على استهلاك النتائج العلميــــــــة أو العملية لهذه العلوم الصحيحة و الجافة، بقدر ما يكون تعامله مع ما يتصل بالممارسات الإنسانية ذات الصبغة الروحانية و الثقافية ،بصفة عامة، إما مبنيا على العاطفة و الاندفاع اللاواعي الذي لا يتحكم فيه العقل أو متجاهلا لهذا البعد الأساسي للوجود.
و هكذا نجد المتخصّص التقني يتأرجح بين موقفين متناقضين من القضية الدينية والثقافية في نفس الآن، و هما الاندفاع العاطفي ،من جهة، و الإلحاد المطلق و احتقار النّمط الفكري الثقافي بصفته غير نفعي و غير مجدي من جهة أخرى. وهو ما يفسّر أنّ الفكر الديني المسيحي اليهودي الغربي مبني على اغتيال العقل، بخلاف الفكر الإسلامي الذي ينبني على اعتماد العقل العاقل غير العقلاني. كما يتجلى ذالك للعيان من خلال التمشي الإبداعي لنمط فكره الوجودي. فالعارفون بالمسائل الدينية في الغـــــرب يدعون » رجال الدين » بينما العارفون في الإسلام يدعون » علمــــــــــــاء » نسبة للعلم الشامل بالوجود و بأبعاده المختلفة و هو مفهوم للعلم يتجاوز معناه مجال العلوم الموصوفة بالصحيحة ولا يتناقض معه بل يحتويه.
و اعتبارا لكلّ هذا نقول إن الدّين الذي يتحدث عنه المتخصّصون في العلوم الصحيحة ممن استهواهم التطرّف الدّيني من المسلمين يمثّل في الواقع تغريبا للإسلام، واستلابا للمسلمين لا يخدم الحضــارة الإسلامية بقدر ما يساعد على تحويلها إلى نظرة ثنائية للوجود تفقدها خصوصيتها الإسلاميـــة التي تأسست عليها
و ليس غريبا إذا أن نجد الفكر الدّيني المتطرّف (الذي يعتبر خطأ أصوليا) والذي يعتمد الفكر العقلاني الثنائي في تأويله للوجود، ينتشر بسهولة في صفوف طلبة المعاهد والكليات المتخصصة في تلقـــــــين العلوم التطبيقية و الصحيحة مثل كلّيات العلوم والطب ومعاهد الهندسة إلى آخره. و كما أشرت إلى ذلك سابقا فإن هذا التّعامل اللاعقلي مع الموروث الديني الإسلامي يختلف عن التصور الإسلامــــي الأصيل المبدع الذي يعتمد إعمال العقل حتى في المسألة الدينية.
و من الملاحظ أن الفكر الديني الغيبي ليس غريبا عن المجتمع التكنولوجي الأمريكي مثلا. حيث نجـــــد الإيديولوجية السائدة تعتمد مقولة الأخذ بناصية العلوم الصحيحة المنتجة للتكنولوجيا الحديثة من جهة والعمل بما جاءت به الأناجيــــــــــــل والتوراة من جهة أخرى. و لا غرابة أن نجد في المجتمع الأمريكي الحديث و المعاصر من يتعاطف مع الفكر الإسلاموي المتطرف أو الفكر اليهودي المتطرّف أيضــــــــــــــا (أنظر كتــــــابLa revanche de Dieu للباحث الفرنسي Gilles Keppel.
فالأصوليات بمعنى التطرّف الديني تعكس بعضها البعض فتتضاد لكنها لا تتناقض أساسا وتتناغم في العمق
هذا التحليل للمنظومة الفكريّة التقنيّة السائدة لم نورده بغيــــة نقد الفكر الغربــــــــــــي أو الحضارة الغربيـــــــة بوجه عام و إنما قمنا بتقديمه لتسليط الضوء على مقومـــــات الفكر التقني الذي نعتمده في تكويــــــــــــن مهندسينا و تقنيينا والكثير من إطاراتنـــــا الجامعية و غير الجامعية و هو تقديم يفسّر إلى حدّ كبير مواطن القوة و مواطن الضّعف فيه.
و من المعطيات الخفية لهذه النظرة التقنية للوجود و ما تعتمده من ثنائية مستلبة للهويّة يمكن الإشــــارة إلى أن هذا التصوّر الثنائي للوجود هو أساس « التوازن المفتعل » الذي سمح إلى حدّ الآن للمجتمعات المتقدمة تكنولوجيا بالسيطرة على العالم، متسلّحة بالفكر التقني العلماني و مشبعة حاجتها الضرورية للغذاء الروحي بتحرير التعبير الفردي و العاطفي إلى أبعد الحدود. و ذلك من خلال تطبيق المقولة المعروفة بأن للقلب دوافعه و حججه التي يجهلها العقل. و بأنّ الألوان و الأذواق ليست محلّ نقاش و بأنّ المسألة الدينية تتّصل بضمـــــــير الأفراد و غير قابلة للنقاش أيضا.
و يمكن الاستطراد حول هذا الموضوع لتوضيح أبعاده الحضارية بذكر الأزمة الموضوعية التي يعيشها الفكر الغربي المعاصر. و التي أكدت طبيعتها الدلالة الخفية لردود الفعل المختلفة لما يسمــــــى بالرأي العام الغربي عندما جُوبِه بوقائع حرب الخليج الأولي بصرف النظر عن تفسيرات هذه الأخيــــــــــــرة السياسية أو الاقتصادية أو التاريخية. و ذلك بالإشارة إلى التناقض الذي اعترى شعور المثقفّـــــــــين الفرنسيين و مفكريهم إزاء هذه الأحداث و هو تناقض تأرجح بين الشعور بالذنب للأبعاد اللاأخلاقيــــة لهذه الحرب من جهة و الشعور بالاعتزاز لما توصّل إليه الغرب من تقدّم تكنولوجي (أنظر ما أوردتـــــه جريدة Le Monde diplomatique في عدد خاص بأزمة الخليج تحت عنوان « حرب نظيفــــــــــــة جدا »Une guerre si propre »
و تشير عمليات سبر الآراء إلى أن الجماهير الغربية بأوروبا و أمريكا تعاملت مع الأزمة باتخاذ موقفين متناقضين تماما. الأول مؤيد للحلول السلمية قبل بدء ضرب العراق وهو ما جعل الرئيسين الفرنســــــي (ميتران) و الأمريكي (بوش الأب) يتظاهران بالبحث عن كل الوسائل الممكنة للتوصل إلى حلّ سلمــي بالطرق الدبلوماسية مع مواصلة الإعداد المحكم للقيام بالحرب. أما الموقف الثاني فتمثل في التحــــول السريع إلى نقيض الموقف الأول و هو التأييد الشبه الكامل للحلّ الحربي ابتدءا من بدء ضرب العراق في 17 جانفي 1991.
و يمكن تفسير هذا التناقض بالرجوع إلى طبيعة المنظومة الفكرية السائدة في المجتمعات المتقدمــــــة تكنولوجيا و التي سبق تحليلها و تقديمها بكونها تعتمد التكامل المتناقض بين عقل آلة جـــــاهل بحــــدوده و نظرة غيبية عاطفية للقضايا الأخلاقية و الإنسانية الثقافية. فالرأي العــــام الغربي تعامل مع الأزمة، قبل الحرب، من خلال القيم الأخلاقية الثقافية المعلنة : العدل والسلــــــــــم والمساواة وحقوق الإنسان إلى آخره، و تعامل مع نفس الحدث، بعد بدء ضرب العراق، من خـــــــلال العقل الآلة الذي يبهر بالوسائل دون التفكير في الغايات. و هو ما يفسّر التناقض بين الشعور بالذنب من جهة و الشعور، من جهة أخرى، بالاعتزاز بما حققته آلتهم الحربية و الصناعيـــــــــــــة من انتصارات علمية و تقنية على كل الذين حدثتهم أنفسهم بمطالبة الغرب بأن يكون موقفه أكثر ملائمة لما يمليه العقل.
ذلك أن هذا الفكر التكنولوجي السائد الذي يعتمد العقل الآلة المتخصص و يضمن توازنه الداخــــــلي بالتعامل الغيبي مع القيم الأخلاقية الإنسانية يتخذ من ثنائية نظرته للوجود مصدرا لقوته الفاعلـــــــــة و الجبّارة دون أن تتمكن مبادؤه الأخلاقية المعلنة من التحكم في هذه القوة و لو تحولت إلى آلة دمـــار واستغلال مجحف للموارد الطّبيعية و تسبّبت في الإخلال الخطير بمقّوّمات الحياة على الأرض
سكان الأحياء الشعبية الجديدة
نعود الآن إلى ما أوردناه من أن الشرائح الاجتماعية التي يمسّها اختـــــــلال التـــــــــوازن بين البعد الاقتصادي المتطور و البعد الثقافي المتردي تنتمي إلى مجموعة المتخصصين في العلوم التطبيقية من جهة و إلى جماعة المهمّشين اقتصاديا و اجتماعيا من جهة أخرى لنتعرض لذكر المجموعة الثانيــــــــة بمواصلة التحليل المنهجي للنمط الفكري و التقني السائد.
نشير في البدء إلى أن النظرة الثنائية للوجود التي تؤسس للفكر التقني و لنمط التنمية الذي تعتمده المجتمعات المتقدمة تكنولوجيا بقدر ما هي مصدر قوة في عملية السيطرة على الموارد الطبيعيــة و تحويلها إلى سلع (السلع تختلف عن الخيرات) بقدر ما تحدث مضاعفات ثانويّة متلفة للمحيـــــــــط الطبيعي و للنسيج الاجتماعي
ولدرء خطر هذه المضاعفات على مقوّمات الحياة الطبيعية على الأرض وعلى صحة الجسد الاجتماعي يقع تكثيف الجمعيات التحسيسية و الاتصالية المختلفة و هي جمعيات ذات صبغة ثقافية تعنـــــــــــــــى بالمحافظة على المحيط و مقاومة التلوّث وبالتضامن الاجتماعي الغير الرسمي و بالنشاط الثقافــــــــي الجمعياتي .
و المتفحّص في نمط النمو المعاصر و الذي بات من الصعب التخلّي عنه و عدم إتباعه يلاحظ أن إتلاف النسيج الاجتماعي ضريبة ضرورية يدفعها كلّ مجتمع يريد التقدم تكنولوجيّا. مما يوجب على القيادة السياسية اتخاذ الإجراءات الضرورية لتعويض غياب الاتصال الاجتماعيّ بالاتصال الثقافــــــــــــي الجمعياتي .
و يشير علماء الاجتماع ممن درسوا التطّرف الديني في الأحياء الشعبية الجديدة إلى أن المتطرفــــين الدينيين يعمدون إلى استغلال الفراغ الاتصالي الذي يحدثه إتلاف النسيج الاجتماعي، بتأســـــــــيس علاقات اتصالية بين الأفراد المهمّشين، مبنية على أسس التضامن و التكافل و موجهة في الآن نفســـــه ضد بقية المجتمع.
و إن قلنا بأنّ إتلاف النسيج الاجتماعي حتمي بالنسبة للمجتمعات التي تعتمد هـــــــــــذا النمط الإنمائي التقني فذالك يرجع، حسب اعتقادنا، إلى طبيعة هذا النمط الفكري نفسه. فعمليّــــــة التجزئة الضرورية، بالنسبة لهذا الفكر الثنائي النظرة، تبدأ بالتفرقة بين المادة و الروح و هو ما يبــــدوا بعيدا عن مشاكل التنظيم الاجتماعي للإنتاج الاقتصادي و استغــــــــلال الموارد الطبيعية و استعمال التقنية المتطوّرة. غير أن تحليل المنظومة الفكريّة السائدة نستنتج منه وجود علاقة أكيدة بين هذا التقسيم الأساسي بين المادة الروح والذي يفتح باب تخصص للعقـــــــــل في استغلال المادة بعد إحالة المسائل الثقافية ذات الصبغة الدينية و الجمالية على دائـــــــرة الأحاسيس والعواطف. وينتج عنه كذالك تقسيمات تسلسلية تمسّ واقع الأفراد و الجماعـــــــــات بتحولهم في نهاية المطاف إلى ذرّات من الغبار. من ذلك تقسيم المجتمع إلى فئات متخصصة حســـــب رتبة كلّ واحد منها في المجتمع و حسب مردودية وظيفته في الدورة الاقتصادية أو حسب قدرته علــــى اكتساب الربح الماديّ الصّرف.
و هكذا تتغيّر، شيئا فشيئا، القيم القديمة التي كانت تضمن توازن المجتمع قبل تحوّله إلى مجتمـــــــــع تقني، فيزاح معلم القرية من مكانته الاجتماعية المحترمة ليعوّض في أعلى الهرم القيمي بالتقنــــــــــي المتخصص أو برجل الأعمال المحلّي المالك للثروة والموجد لمواطن الشغل. و يبهر الريفي الشاب و الكهل بأنوار المدينة ليقطع صلة الرّحم التي كانت تربط أباه وجدّه بأرضه و بعائلته الكبيرة وينــــــــــزح إلى مجتمع الأفراد المعزولين حيث تلفظه دورة الإنتاج لعدم تخصّصه أو تحيله إلى آلة إنتاج لا تمثّـــــــل قدرتها الإنتاجية البدنية إلا جزءا صغيرا ممّا توفره الآلة الميكانيكية من منتجات
. كما يترتّب عن هذا الانزلاق القيمي أن الخلايا المنبتّة و التي يلفضها المجتمع لعدم قدرتــــــــها على إيجاد مكان لها في دورة الإنتاج، تؤسس مجتمعات صغيرة موازية، مبنية على غريزة حبّ البقـــــــــــاء البدائيّة و ذلك باللّجوء إلى أشكال منحرفة من الحياة الجمعياتية المعادية للمجتمع
التكامل الموضوعي بين الطموح التقني الى السلطة السياسية و طموحات المهمشين الى حياة أفضل
إذا إعتبرنا القيمة المركزية التي يضفيها المجتمع التقني على النشاط المنتج الناجع و المربح، فهمــــــنا القيمة الاجتماعية التي يعترف بها المجتمع للتـّـقني المتخصص. و إذا ما ذكّرنا الى جانب ذلك بطبيعة المنظومة الفكرية التي يعتمدها صاحب العقل الآلة و ما تتضمنه من حبّ للسيطرة و من جهل بشموليّة الواقع الإنساني المعقّد، يمكننا تفسير الطموحات التي قد تستهوي المتخصّص في العلوم التطبيقيّــــة وتدفعه للمطالبة بتسلّم مقاليد السلطة السياسية. كما يمكّننا كذلك التفطّن للوسائل الناجعة التــــــي سيستعملها لبلوغ مآربه. فالقيمة المؤسسة لمركزه الاجتماعي و هي النجاعة و الفاعلية تؤهله أكثر مـــن غيره إلى استنباط الخطط السياسية ذات الجدوى السريعة. فيحوّل الخطاب السياســــي إلى تقنيات تعبئة حديثة، غايتها التوصل إلى إحداث تغييرات كميّة و هامة في الرأي العام و إلــــــى نتائج ملموسة وذلك بأقل التّكاليف.
و يتّخذ استعمال هذه التقنيات شكل مخططات علمية مدروسة لا تأخذ في الاعتبار نوعية الوسائل ( إن كانت محرّرة للعقول أم لا) بقدر ما تركّز على الفاعلية، مثالها في ذلك النّمط الفكري التكنولوجـــــــــي السّائد. و طبيعي أيضا أن يفكّر صاحب الفكر العلمي المتخصص، إن كان ينتمي إلى مجتمع مسلـــم، في اختيار أنجع السبل واقلّها تكلفة لإنجاح مخططاته السياسية الثورية الانقلابية. فلا يجد أمامــــه من سلاح أفتك من الخطاب الديّني المتطرف لتعبئة المجتمعات الصّغيرة المهمّشة و رمـــــي النظام القائم بها. و ذلك بعد تفطّنه لمردودية الجمع الناجع بين وسيلة فعّالة و مقنعة في قمعها للعقول و هي الخطاب الديني المتطرّف من جهة و فئات محرومة في أشد الحاجة إلى المشاريع الاجتماعيــــــة البديلة. هذه المشاريع التي توصف أو تتصف بالطوباوية و هي بصفتها هذه تتناقض تماما مع مقّومات الفكر التقني و ترفض هذا الواقع المعاصر الذي ينتجه هذا الفكر. ممّا يجعلها مشاريع تعبويّة مرحليــة غير ناجعة على الأمد المتوسّط و البعيد
ولقد دلّت التجربة الإيرانية أن النجاح السياسي لمثل هذه المشاريع البديلة التي تستعمل الجمع بيـــــن الخطاب الديني المتطرف و طموحات المستضعفين لا ينتج عنها أي تغيير حقيقي للمجتمع. و لا تــــؤدي البتّة إلى حلّ مشكلة تهميش الخلايا غيرالمنتجة و الغير الصالحة لآلة الإنتاج. فتكون نتيجة هــــــــذه المشاريع البديلة وصول المتخصصين في العلوم التطبيقية إلى السلطة السياسية بلبسهم العمامـــــــــة و عتقهم اللّحي و حملهم البندقية أثناء مرحلة الثورة، و بعدها يتحوّلون الى تقنوقراطيين تيوقراطيـــــين يديرون شؤون المجتمع من خلال الفكر التقني السائد و التعامل اللاعقلي مع الدين على الطريقـــــــــة الغربية. متنكّرين في آخر المطاف للإسلام المحرّر للذات و الموحد للفرد و المنير للعقول و المفجّـــــــــــر للطاقات الابداعية في المجتمع. و هو التمشي الذي أراد تمريره الرئيس أبو الحسن بني صدر دون أن يفلح في ذلك.
و هناك من المؤشّرات الموضوعية ما يدلّ على أن النظام الإيراني الجديد و المجتمع الذي أسسّــــه أقرب للمثال الغربي السائد من الذي كان عليه المجتمع الإيراني تحت حكم الشاه. و ذلك لما كان يشـــــــــوب مجتمع الإمبراطور من مراجع حضارية تتصل بتاريخ إيران العريق و من عدم تشريكه الكنيسة الشيعية في الحكم و عدم اعترافه بالإطارات الكثيرة من التقنيين الذين كوّنهم في جامعات أمريكا و ألمانيـــــــا و وضعهم بعد ذلك تحت إشراف طبقة المقرّبين من القصر. وهو ما يفسّر التحالف الموضوعــــــــي بين المهندسين المعمّمين بالضرورة و المؤسسّة الكنسية الشيعية و تجّار البازار الذين كانوا يطمحون لعقلنــة النظام الاقتصادي للزيادة في الإنتاجية (أنظر جيل كيبال في كتابه « La Revanche de Dieu ».
و يمكننا القول إثر هذا التحليل بأن نجاح « الثورة الإسلامية » في عالمنا المعاصر ضريبته خيانــة الثورة لمبادئها المعلنة (أنظر كتاب بني صدر: »La Révolution trahie ») بعد وصول قادتها للحـــكم، و هو ما يفسّر صمت قادة الحركات الإسلاموية المتطرّفة عن الإدلاء ببرامجها الاقتصادية البديلة. و الواقـــــع أنّهم لا يملكون بديلا حقيقيّا لا على المستوى الاجتماعي و لا على المستوى الاقتصادي و إنما يقدّمـــون تصوّرات طوباويّة تساعدهم على تثوير المحرومين و عسكرتهم واستخدامهم كوسيلة للتوصّل للسلطة السياسية بشتّى الوسائل. والمحرومون ليسوا غاية بل وسيلة لإبدال النخبة الحاكمة بنخبــــــة أخرى
تونس في ديسمبر1992
Répondre