صرحت في الحوار الذي أجرته معي جريدة الشروق ونشر بتاريخ الحادي عشر من فيفري « إني لست أول من يقول بأن الثورة التونسية التي علينا أن نحظى إنسانيتها الرفيعة من جيوب الردة التي تهدد خصوصيتها الحضارية و من كل تمجيد للعنف الذي يتمثل في الظلم و في الرد على الظلم بالظلم المضاد لها بعدا شعريا أكيدا يتأسس في الاحتراق الرمزي لشاب حنون من مدينة – أبو زيد – ذكر باستشهاده البشرية جمعاء بأن الحياة كرامة أو لا تكون. وهذا البعد الرمزي هو ما يضفي على تضحية محمد البوعزيزي بنفسه على معبد الكرامة بعدا روحانيا واضحا يحمل ثورتنا من العمق و يجعل منها واقعا ربانيا يصعب الركوب عليه
. فهذه الثورة التي جاد بها القدر لشعب الشابي و البوعزيزي استجابة لرفض كل منهما العيش بين الحفر وتوقهما للكرامة المؤنسنة للبشر والتي جوهرها شوق الحرية الحارق ووهجه المطهر للنفس الأمارة بالسوء
وكتبت اثر ما عرفته مدينة سيدي بوزيد من تبرئة للآنسة حمدي من تهمة إهانتها للبوعزيزي : « ولا غرابة أيضا في أن التفسير الأسطوري لدور البوعزيزي و الذي وقع من خلاله نزع كل بعد روحي عن ثورة الشباب التونسي فتح الباب لكل التأويلات التاريخية الوضعية البطولية السياسية و أدخلها في باب المسارات الثورية الغائية و المتعمدة . وكان الأثر السلبي لهذه التأويلات ظهور مزايدات مرضية بين الجهات حول « مفجري الثورة الحقيقيين » تمثلت بالخصوص في إرجاع شرارتها الأولى إلى أحداث الحوض المنجمي التي لم يكتب لها الانتشار بالرغم من مساندة وسائل الإعلام العالمية لها و استعمال قادتها الشبكات الاتصالية الاجتماعية على الانترنيت
والذي يمكن استخلاصه مما آلت إليه عملية « أسطرة » البوعزيزي هو أن ما أشعل فتيل الثورة ليس النار الحقيقية التي أضرمها هذا الشاب في جسده و إنما صورة التقطت بهاتف جوال تناقلتها وسائل الإعلام العالمية و تلقفها شباب الفايسبوك . أما وقودها فلم يكن إلا توق الشعب التونسي المثقف ذي الأغلبية الشبابية إلى الحرية و الكرامة. بما فيه شباب سيدي بوزيد الذي أظهرت مواقفه من محاكمة الآنسة حمدي أن مظاهرته الأولى تتجاوز التضامن القبلي مع محمد البوعزيزي الشخص و تتصل بشرعية ما يحس به أبناء تونس الأعماق من تهميش لم يعد يطاق. »
أنا من الذين يتعاملون مع اللغة باعتبارها « وسيطا » يسمح للإنسان برؤية الواقع و الذي بدونه يبقى « لامرئيا » وهو التأويل الذي أعتمده في فهمي لما يشير إليه القرآن من أن الله فضل آدم عن بقية مخلوقاته فحباه بالعقل و علمه الأسماء كلها. وبنو آدم عندما ينطقون بالنص المقدس يقومون بذلك بعد البسملة أي باسم الله وهو أول الأسماء و خالق الوجود بتفعيل الكلم. وخلافا لما يشبه للنظار من أتباع الرؤى الماورائية فالكلمات ليست شفافة بطبيعتها أي إن معناها ليس معطى و يتطلب التأويل بالضرورة. و التأويل يختلف معناه حسب الحقل المعرفي الذي نمارسه فيه. فان كانت خلفية تأويل الكلمات السيطرة الجماعية على الواقع للتحكم فيه يتخذ التأويل شكلا اتفاقيها يسمح للمجموعة من تنظيم تعاون أفرادها في حيز واقع مشترك. وأما إذا تعلق الأمر بتحرير الواقع مما يوقعه به التأويل الجماعي من تجميد ضروري لحركته الدائمة و المستمرة فيتطلب ممارسة التأويل الإبداعي الذي يقوم به المبدعون من خلال ما يشير إليه علم النفس المعاصر بعملية الترميز
-activité de symbolisation-
وهو ما يختلف عن استعمال الرموز. و يكون النشاط الإبداعي غايته تغيير الواقع شريطة أن لا يقع الخلط لدى الشعراء و الفنانين بين موقعين من الوجود متناقضين و متكاملين في نفس الآن. والخلط بين المقامين وارد كذلك بالنسبة لمن يختص بالتحكم في الواقع انطلاقا من مركز الحكم أو من موقع المعارضة. فالالتزام السياسي لا يسحب على الالتزام الإبداعي دون إخراجه عن نسق إنتاجه الخصوصي الذي يكون الالتزام به ضروريا. لأن المواكبة المساندة للثورة السياسية من طرف المبدعين تفقد جدواها إذا ما تخلى الالتزام في الأدب و الفن عن غايته الإبداعية الخصوصية كما ذكر بذلك أدونيس الشاعر السوري المقيم بفرنسا أثناء زيارته الأخيرة لمدينة سيدي بوزيد.
ومن الضروري التأكيد هنا على أن التأويل الذي يقوم به الإنسان المبدع لمفردات اللغة المتفق على معناها في المجال السياسي و التبليغي الإعلامي يفرض على الشاعر أو المحلل الفني لواقع ما أن يكون صارما إلى أبعد الحدود مبتعدا ما أمكن في استعماله التأويلي لهذه المفردات عن الكتابة الانسيابية التي تجعل من النص الشعري أو التحليلي الفني نسيجا غير متقن و فضفاض من الكلام الخاوي و الخالي من الدلالة بسبب عدم توافق مغناه بما يجب أن يلتزم به معناه فيصح فيه ما يقوله الكتاب في صنيع الشعراء.
وأعود الآن إلى بدء المقال بتأكيد قولي بسلبية « أسطرة » البوعزيزي الشخص لما يترتب عنه من تشريع ضمني لأسطرة الثورة من طرف مؤدلجيها من الانتهازيين السياسيين الذين يمتدحونها بغاية ترويضها لتسهيل ركوبها. وأسطرة الثورة بالمفهوم الايجابي و يتمثل في « ملحمتها » يقوم به المبدعون الذين يعدلون بالضرورة عن الأفق السياسي الذي يتنزل فيه الواقع الثوري الذي من الأجدى أن يكون التعامل معه موضوعيا إلى أقصى الحدود أي بعيدا عن التخمين الانفعالي و ردود الفعل الارتجاجية « الرجعية ».
و من منطلق أن تأويلي لمسار ثورتنا التونسية أريد له أن يكون إبداعيا ينأى عن المقاصد السياسوية أضفيت بعدا رمزيا في حديثي للشروق بتاريخ 11 فيفري2011 على قراءتي للثورة إذ أقول بأن ثورتنا لها بعد شعري أكيد « يتأسس في الاحتراق الرمزي لشاب حنون من مدينة – أبو زيد. « و أشير هنا إلى أني أتحدث عما تحيل عليه « صورة ما حدث » و ليس « واقع ما حدث » كما قد تدعي لغة الإعلام الإفادة به.
فصورة البوعزيزي التي اعتمدتها للحديث عنه هي التي تداولاتها و سائل الإعلام و تمثله مبتسما فوصفته بالحنون دون معرفتي به شخصيا. و باكتفائي ب – أبو زيد- للدلالة على المدينة التي ينتمي إليها قصدت التذكير بالبعد الملحمي لأبي زيد الهلالي. وبعد أن وقعت تبرئة الآنسة حمدي من دور الشرطية المتسلطة ذكرت بأن ما « أشعل فتيل الثورة ليس النار الحقيقية التي أضرمها هذا الشاب في جسده و إنما صورة التقطت بهاتف جوال تناقلتها وسائل الإعلام العالمية و تلقفها شباب الفايسبوك. و لن أتنازل عن وصفي البوعزيزي بالشاب الحنون لأن ذلك يخدم البعد الملحمي الذي أريد إضفاءه على ثورة شبابنا المباركة. و كما أن قدسية مريم من قدسية ابنها عيسى و قدسية محمد في نظر البعض من مذاهب الشيعة من قدسية ابنته فاطمة (أم أبيها) فأنا اعتبر أن قدسية النار التي أشعلها البوعزيزي في جسده من قدسية الثورة التي تبعتها. لأن تقديسي لثورات الشعوب يتجاوز تقديسي لأبطالها . و التجاوز لا يفيد النفي بل القول بان تقديس الأبطال يحتويه تقديس الشعوب لأن الأبطال بشعوبها و القول بخلاف ذلك يحيلنا على فكر معمر القذافي و كذالك على الفكر ألتزلفي الذي حول صفة الأكبر من الجهاد الأكبر إلى « المجاهد الأكبر ».
فلنحاول استثمار ثورتنا لبناء نظام ديمقراطي نريده أضمن ما أمكن لحرية التعبير و أعدل ما أمكن بين الجهات و العباد و أبعد ما أمكن عن إنتاج الساسة الأبطال.
الناصر بن الشيخ
Répondre