عندما تتجلى الصورة، متجاوزة الأسوار…. ومعيدة قراءة السُوَ ر
عندما زرت مرسمه بدار الجمعيات بالمدينة العتيقة أوقعت لوحانه أثرها في نفسي فخطرت ببالي ومضة إشهارية بطلها نجم مسرحي من الجنوب فحواها ما معناه أن المشروع الناجح لا يبنى إلا على أساس صلب و « صحيح » لما تضمنه قوة « الساس » من إبداع فاعل. خطرت ببالي هذه ا لومضة لأني وجدت نفسي أمام أعمال فنية ارتأيت فيها معنى يناقض هذا المبدأ القائل بأن الأساس أهم من عزيمة المؤسس و انا لا أكره التناقضات. عندما زرت مرسمه و شاهدت أعماله طفت إلى سطح ذاكرتي ما يقوله العارفون بأن الله سبحانه و تعالى خلق الكون من « لاشيء » و بدون قصد وجدتني مسايرا لتداعي أفكاري محققا في حقيقة الإنسان عندما يعكس عمله في مقام الإبداع الزائل أثر الخالق في مقام الخلق. فالمخلوق إذ ا ما سكن لحتمية زواله أشرف منه على عالم الخلود. و من عابر لا يمكنه إلا العبور يتحول إلى مُعَبِرٍٍ قادر على التعبير.
ونحن عندما نقول « لاشيء » نشير بالفعل أو بالقوة إلى « عين الشيء » ألا وهو الصفر أو الشفره. هذا الإكتشاف الذ ي أخذه العرب عن الهنود و فتحوا به آفاق اللامحدود في وجه الفكر البشري الحاسب صانع الحاسوب. وجدتني إذا متأملا في هذه اللوحات الرائعة و قد خاطتها يد نساج بارع من « لا شيء » أي من كارتون النفايات و علب السجائر الفارغة الملقاة على الرصيف بعد أن استهلك محتواها فمحيت من الوجود. علب خاوية أضاعت قيمتها الإستهلاكية فتركت بدون معنى يذكر تعبث بها أرجل المارة لولا سبق الرسام إليها و رفعها قبل عمال التنظيف البلدي و تغيير وجهتها المحتومة من فضاء النفايات إلى رواق الفنون. وأنا لا أجد تناقضا في الجمع بين فضاء النفايات و فضاء الفن فكل منهما يحتل حيزا غير واضح المعالم لا يؤمه إلا ذوي الأفكار السائبه و الغاؤون من أتباع الشعراء. فالوضوح الكامل لا يبتغيه إلا أتباع الأفكار المُصَنَمَة المًصَنِمَة و الإيديولوجيات الجاهزة للإستهلاك ( و الإستهلاك من طلب الهلاك) و الذين يتعممون ( من العمامة و التعميم) أو يتبرنسون و يتجببون بالهوية الواضحة و النهائية المنتهية الصلوحية ليحجبوا عن أنفسهم غموض رؤياهم و عجزهم عن الإحاطة بالواقع دون تأطيره و تسييجه و » تسويره ». و الصور التي ينتجها الفنان إذا ما اعتمدت الرؤية الواضحة استحالت إلى « سُورٍٍ » أو إلى سُوَرِ لحبس الواقع و سد الآفاق فتدخل واضعيها في شَرَك « الدعوه » و في الشِِِرْك بالله من حيث لا يشعرون.
حمادي بن سعد الرسام إنسان عادي تعرفه شوارع المدينة الحديثة المستقيمة وأزقة المدينة القديمة الملتوية و الممرات التي تصل أو تفصل بين مكاتب وزارة الثقافة. كما تعرفه ساحات باريس و مراكش و جبلينه بصقلية و الطريق التي تربط العاصمة الحفصية بالعاصمة الأغلبية على مستوى السبيخة . ويعرفه كذلك أطفال تونس و أطفال القاهره و تعلم معهم براءة الرؤية و صدق القول و الإيمان العميق بواقعية الحلم.
حمادي بن سعد مرسمه كما اشرت يوجد في دار الجمعيات … على السطوح يحتل ممرا ضيقا بين فناء الدار و طابقها العلوي الوحيد…زاد هذا الممر ضيقا ما كدسه الرسام من ورق مقوى كان صالحا و لم يعد جمعه بعد أن « عثر فيه » فعثر عليه . منه الكثيف و الشفاف و ما هو كثيف و شفاف معا و ما هو أزرق باهت و ما هو أحمر ناصع وما لونه بُنِِي مثل التراب و ما بريقه يحاكي بريق الفضة و لمعان التبر… كل ذلك مكنوز في زاوية ليكون زادا للمبدع و منجما » لفناني الغلبه رعاة النجوم » …. ممن يتوقون إلى بناء أنفسهم و أوطانهم بدون قيد و لا شرط ….. من « لا شيء » . لا شيء إلا حب العمل و تحويل ما يقع بين اصابع الفنان من أشلاء أخرجت بعد استعمالها من أصناف الصالح و أدرجت في هاوية المنسي الطالح وفي قائمة المتلف الذي لا يرحى منه نفع. يأخذها الرسام فبعيد صياغة مقاطعها و يبعث بينها علاقلات جديدة تجعل منها مساحات ملونة تفتح أعين الرائين على « عين الشيء » …. فتتجلى الصورة متجاوزة الأسوار و معيدة قراءة السُوَر .
…رسوم حمادي بن سعد تبدو في غربتها آتية من أغوار واقعنا اليومي المألوف الذي نتحدث عنه دون أن نراه و نذكره دون أن نتذكر معناه و نسمع مغناه …… و من السهل أن نبني بما هو قابل للبناء …بما تسلم معه عند شرائه طريقة استعماله ومسبق مراحل إنتاجه … و من السهل أن نرمم ما يتراءى لنا انه قابل للترميم….. لكن كما يقال الطريق ليس صعبا بل الصعب هو الطريق.
… وجد حمادي بن سعد نفسه في طريق صعب – ضيق الحال و قلة ما في اليد ــ فاختار ان يبعث قيمة فيما ليست له قيمة عوض أن يتعلل بانعدام » الإمكانيات «
و من الواضح أن جل اعماله تونسية معاصرة و الحال انها تدخل في باب الإتجاهات العالمية الغربية المنبع فهي بوجودها ترمز إلى إمكانية التأصيل دون إعادة الأصيل.
تونس في 15 أفريل 1993 الناصر بن الشيخ
Répondre