أتوجه بقولي هذا إلى مشاريع السياسيين بتونس زمن الثورة.
و أهديه إلى روح الشهيد شكـــــــــــــــــــــــــــــــــري بلعيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد
من المراحل التي يمكن أن يمر بها المترشحون لامتهان السياسة مرحلة إتخاذ المواقف. ويتمثل ذلك في تقييم ذهني، قد لا يرتقي إلى مستوى التنظير، لواقع سياسي خصوصي، يتبعه إعلان بالحكم على الفاعلين فيه من أصحاب القرار و معارضيهم على حد السوى. و كثيرا ما يكون الحكم أو بالأحرى الإعلان عنه في شكل تصريح أو بلاغ للعموم يوضح فيه صاحبه تأويله للأوضاع الراهنة كما يراها إنطلاقا لا من « وجهـــــة نظــــره« مثلما تحيل عليه لغتنا العربية اليوم و لكن إنطلاقا من « زاوية مشاهدته » و »نقطة نظره » كما يحيل عليه إستعمال اللغة الفرنسية. ذلك أن الموقف و إتخاذ المواقف قبل أن يكون إعلاما بنتيجة تأويل الملاحظ للواقع المعني بالتحليل هو إقرار ضمني و غير معلن عن الموقع الخاص للمشاهد و عن مكان وقوفه (موقف) أثناء نظره لطرف من الأطراف (المتعددة بالضرورة) التي يتمشهد فيهاالواقع في أعين الرائين.
و الذي يختزل عملية تقييمه للموضوع، ليحكم عليه أو له، من وجهة نظره يحرم نفسه من تحويل إبصاره إلى بصيرة. وهو ما يقوم به المبصر لإبصاره المموضع له و الواعي بكيفية حدوثه. وهو الذي يبدأ بالكشف عن الأرضية المخصوصة التي يتموقع فيها. و التموقع إقرار بالإنتماء للواقع و قبول من طرف الذات بكونها شريكا للموضوع بإنتمائهما المشترك إليه . وهو ما يتطلب من المشاهد (الذات المنفصلة) العدول عن التحليق من فوق الربوة و الحط على أرض البسيطة. أي بتوضيحه لنفسه و لمخاطبه نقطة إبصاره و زاوية نظره قبل الإعلان عن وجهة هذا النظر.
و الفصل بين الذات و الموضوع يسقط الذات الفاعلة في دائرة اللاوعي ويجمدها في موقف مشاهد متفرج نظرته للواقع أساسها إسقاط عين الناظر على خط الأفق في نقطة يقر واضعوها من مهندسي عصر النهضة الأوروبي بأنها نقطة الهروب ( الهروب من الواقع). وهي كذلك، لما يتضمنه القبول بصحة وجودها من تجاوز للمعقول يتمثل في إعتماد منظور (پرسپكتيف) ينبني على تلاقي خطين متوازيين (وهو ما يستحيله العقل) في نقطة من نقاط خط الأفق الذي كلما قربت منه بعد عنك لأنه يمثل خط تماس السماء بالأرض (و هو ما يستحيله العقل كذلك). و من المفيد أن نلاحظ أن كلمة « پرسپكتيف » لا تدل على نفس المعنى الذي تتضمنه كلمة منظور لأن الحسن ابن الهيثم وضع علم المنظور(مفعول) فحولته النهضة الإيطالية إلى تمثل الناظر(الفاعل) للواقع مع عدم التفرقة بين التمثل والرؤية . و بالخلط بين التمثل و الإبصار(الرؤية) يتحول .البصرإلى نظر و البصيرة إلى تنظير مسقط، لا يسمح بتغيير الواقع إلا بالسيطرة عليه بمقاومة الحركة فيه
المشكل لا يتمثل في عدم موافقة قواعد الرؤية العينية لما يمليه العقل بأحكامه (فالعقل العاقل لنفسه يسع الخيال الخلاق) بل في عدم تواضع الذات المنفصلة للفاعل الناطق بالحكموفي نكران هذا الأخير ما يربطه بالموضوع (وهو الإنتماء المحتوم للواقع المشترك) وفي عدم الإفصاح المسبق عن مكان نطقه بحكمه. و ما لم يقم المرشح نفسه لإمتهان السياسة بتجنب ما وقع ذكره من أشكال الاستلاب الذي يوقع فيه نمط التفكير المتافيزيقي معتمديه سيكون عرضة للسقوط في الشرك و معرضا عن تمكين سامعه من تنسيب الحكم المنطوق به.
و كما يقول المثل الشعبي « المتفرج فارس »أي أن رؤيته للواقع لا ترتقي إلى درجة المعرفة التجريبية التي تميز المترجل الذي يستمد فاعلية بصيرته من تحسس قدميه أديم الأرض تحسسا يساعد العقل على تحو يل الرؤية إلى رؤيا. و إستشراف المستقبل لا يقوم به من يرون عن بعد باستعمالهم المنظار بل يقوم به من يعود نفسه على الغوص في الواقع المشترك بتحويل اللا مرئي إلى مرئي و هي عملية إبداعية بالأساس. و السياسي المبدع هومن يكون قادرا على الرؤيا و ليس حاملا لها لأن الرؤيا فعل يتمثل في تعميق الرؤية و ليس تجاوز لها و قفز عليها. و هو ما كان يتصف به الزعيم الحبيب بورقيبه و ما أشرت إلى و جوده فيما تعلمه السيد الباجي قايد السبسي عنه، من خلال معاشرته له عندما قلت إن ممارسته للسياسة ضرب من الإبداع.
و يوجد من رجال السياسة من يقضون العمر في التحليق من فوق الربوة لعدم تمكنهم من تجاوز إنفصال ذواتهم عن مواضيعها. و تبقى مواقفهم لا تنبي إلا عن رغبتهم في فهم متعال للواقع بغية التحكم فيه دون القدرة على تفهمه بالإلتقاء الضروري بما يضمه هذا الواقع من شركاء. و لا يتمكن السياسي الفاهم للواقع و الغير المتفهم له من تحويل رغبته في تغييره إلا بالعمل على أن تلتحم رغبته برغبة الذين يبتغي قيادتهم .
و تصور الحكم خارج هذا المنظور التواضعي التشاركي الآدمي الأديمي الأرضي لا يمكنه إلا أن يجعل من كل مترشح له،مهما كان توجه وجهة نظره، مشروعَ مسيطِــٍر ( بمفهوم « لست عليهم بمسيطر »). مشروع دكتاتور مستبد
قد نكون في طريق التخلص الوشيك من مشروع الدكتاتورية الفاشية الدينية اللاروحية الفاسدة و المفسدة للبلاد و للعباد…. لكن واجب اليقضة يملي علينا أن نتمعن من الآن فيما سيقدمه لنا مشاريع السياسيين من مشاريع سياسية خيرة و حنونه تعلن عن النوايا الحسنة لبائعيها في المزاد العلني الديمقراطي مقابل ثقتنا و التي قد تنكشف للعيان بعد فوات الأوان أنها كانت تعبيدا للطريق الموصلة إلى جهنم
أكوده في ٢٦ أكتوبر ٢٠١٣
الناصر بن الشيخ
Répondre