متى سيعي المهتمون بالشأن السياسي من المثقفين و الفنانين بأن الوعي السياسي يتمثل في اعتبار الواقع صورة متحركة و غير ثابتة تتبدل معطياتها في كل حين و آن؟ و هاته الصفة غير الثابته تجعل من الواقع شيئا غير مرئي لأن عملية الإبصار لا تكون ممكنة و دقيقة وكاملة الوضوح الا بتحويل الواقع المتحرك الى صورة ثابته. وهو ما يجبر المتثبت في الوجود على التجديد المتواصل للصور الثابته التي يتحسس من خلالها الواقع عن طريق البصر. و من هنا نفهم ارتباط الرؤية البصرية بالتفكير فالمفهوم الواضح مثل الصورة الواصحة يجب تجديده حتى يبقى ذي معنى و ذي جدوى
و المفهوم دلالته ليست مطلقة و لا نهاءية أحقيتها تستمدها لا من الحقيقة المطلقة و من عالم المثل و لكن من نشأتها المتجددة في الوجود الدائم التحول. فالحقيقة ليست مكان بل مسار تعرف من خلال فلسفة العلوم المعاصرة بأنها البحث عن الخطأ في الحقيفة السائدة, و الحقيقة بهذا التعريف تكون بالتالي شكا إيجابيا متواصلا مبدعا و كاشفا لما كان مخفيا من الواقع.
و من هنا نستخلص كذلك أن فهم الواقع يتطلب منا تجديد صورته في أذهاننا و أن لا نركن إلى المفاهيم المجردة و النهائية المنتهية فنسقطها على الواقع. و ينسحب هذا على رؤيتنا لكل قضايانا مهما كانت درجة قدسيتها إن كان للقدسية درجات.
لنأجذ مثلا قضية فلسطين و الطريقة التي علينا أن نتوخاها للدفاع عنها باستنباط سياسة مجدية تخرجها من الأنفاق السياسية المسدودة التي آلت إليها لكونها كانت قابلة للإنسداد و لست هنا بصدد تقديم حلول بل اتحدث عن منهج عمل
و من الواضح أن النضال السياسي بصفته عمل يبتغي تغيير الواقع لا بد و أن يكون مبنيا على التحيين المتواصل لمعطيات الواقع الذي نبتغي تغييره. و من الخطأ الوجودي أن نبقى نتحدث عن فلسطين من خانة « حتى لا ننسى » أو أن نبقى نتحدث عما قدمه بورقيبه سنة 65 في خطابه بأريحه من منهجية نضالية معاصرة من باب اللوم على عدم الأخذ برأيه و من باب الفرص الضائعة. فخطاب اريحه مرتبط بالوضع الذي كان سائدا قبل احتلال الضفة الغربية بعد حرب 67. و من الخطأ ان نختزل موقف بورقيبه من قضية فلسطين في خطاب اريحه و ان ننسى موقفه من الأردن خمس سنوات بعدها إثر أحداث سبتمبر أيلول الأسود.
فالذين يقفزون فوق التاريخ الحقيقي (و هو التاريخ الوحيد و لا وجود لتاريخ الافنراض) يرفضون اليوم أن نساند شارلي هبدو بدعوى أنه عندما اغتيل ناجي العلي لم يتضامن الغرب معه.
و لماذا لا يمكننا القول بأن الدفاع عن شارلي هبدو اليوم قد ينصف ناجي العلي مما حرم منه سنة 87. فالغرب في نهاية الثمانينات ليس هو غرب اليوم وأحداث 11 سبتمبر 2001 ليست فاجعة اغتيال فناني و صحفي شارلي هبدو. ولن أخفي تصديقي لنظرية المؤامرة و لكن يبدو أن الذين خططوا للحدث لم يقيموا الواقع الأوروبي الجديد بما فيه الكفاية من الواقعية. فالشعب الآميركي ليس الشعب الفرنسي أو الشعب الألماني و فشل مؤامرة بوش على الشعوب العربية بدأت تظهر آثاره النفسيه فيما يلجأ إليه الخاسرون من استعمال لوسائل مفضوحة يائسة بغية ترهيب البشرية جمعاء
و ما حضور ناتنياهو كضيف ثقيل و غير مدعو و ما جاء عن لسان رئيس فرنسا و وزيرها الأول و عن لسان رئيسة حكومة ألمانيا الا نتيجة معاكسة لما كان ينتظره المتآمرون غلى الإسلام و المسلمين.
مع العلم و أن كل خسارة سياسية تتكبدها حكومة اسرائيل ليست بالضرورة خسارة لإسرائيل و أما نحن فيجب أن نحول هاته الخسارة الى ربح لفلسطين إذا لم نغمض اعيننا و ننظر الى واقع الحال كما هو , فالمبادئ تنتمي لعالم المثل و لا يمكنك ان تخدمها إلا بصفة منقوصة قابلة للإكتمال . وهو عمل يتواصل الى أن يرث الله الأرض ومن عليها كما كان يقول بورقيبه رحمه الله.
و لا يهم ان يكوت قادة الغرب من الصادقين لآن السياسة تمثيل و تَمَثُل ابداعي للواقع له علاقة بالاطيقا و الاستتيقا و ليس بالأخلاق
,
Répondre